من فن ثنى وطى الورق للفنان الأمريكى : بيتر كاليسى
ثورة فى التعليم
عرض : حسين أحمد إسماعيل
للدكتور شكرى عياد – رحمه الله رحمة واسعة – كتاب مهم جدا , يجب أن يقرأه كل مهتم بمستقبل مصر , وكل الآباء والأمهات . والكتاب هو : مدارس بلا تعليم وتعليم بلا مدارس . والكتاب صادر عام 1999 عن دار أصدقاء الكتاب .
تعرف بالمؤلف :
والدكتور شكرى عياد من النقاد والمفكرين الكبار , وقد عمل فى بداية حياته معلما فى مدرسة بنها الابتدائية , و حصل على دبلوم معهد التربية العالى سنة 1942, ومارس التعليم بالمدارس الابتدائية القديمة من سنة 1942 إلى 1945 , والتعليم الجامعى من سنة 1953 إلى سنة 1986 ..
وله العديد من الدراسات الأدبية , وست مجموعات قصصية .
وحصل على جائزة الدولة التقديرية فى النقد الأدبى سنة 1988 , وجائزة الكويت للتقدم العلمى سنة 1988 , وجائزة الملك فيصل فى الدراسات الأدبية سنة 1992, وجائزة العويس فى النقد الأدبى سنة 1998
مدارس بلا تعليم
يدعو الدكتور عياد فى كتابه إلى ثورة حقيقية على منظومة التعليم , تأخذ بنا إلى المستقبل مع عدم إغفال أن الواقع لا يتغير بين يوم وليلة .. إنها ثورة هادئة عاقلة .
وهو ملم تماما بمشاكل التعليم , لذلك يوجه حديثه فى الفصل الأول إلى الآباء والأمهات , ويضع أمامهم المشاكل التى يعانى منها المجتمع , من بداية دخول أبنائهم المرحلة الابتدائية إلى أن يتخرجوا فى الجامعة , ويقترح حلولا لها . كما لا يتعالى على الواقع أبدا , فيأتى بنظريات من الفراغ إلى الفراغ , بل يبدأ وينتهى إلى الواقع مستفيدا من خبرته بالواقع التعليمى , وهو لا يحاور, ولا يناور , ولا يلف , ولا يدور , إنما شأنه شأن العلماء المحبين لوطنهم , والباحثين عن الحقيقة التى يحاول الكثيرون طمسها لمصالحهم , ومنافعهم الصغيرة الزائلة.
لماذا الثورة على الواقع ؟
يقول الدكتور عياد : " التعليم اليوم ليس إعدادا للحياة , أى نوع من الحياة , بل هو إعداد للبطالة , وحسبك أنه أوصلنا إلى هذه النقيضة العجيبة : أن لدينا اليوم , رغم الزيادة الضخمة فى أرقام التعليم , كثرة هائلة من العاطلين , وقلة مزعجة من العمالة المدربة ! أى أن التعليم بصورته الحاضرة قد حول الرصيد البشرى فى مصر , - وهو أعظم ما تملك – عن طريق العمل إلى طريق البطالة . وحسبك بهذا خيبة " ص 74 .
ما طريق التغيير ؟
يقترح الدكتور شكرى عياد نظاما تعليميا مختلفا اختلافا جذريا , يتجاور مع النظام التعليمى الحالى إلى أن يحل محله تدريجيا . وهذا النظام قائم على ربط التعليم بالعمل , وتقليل الجلوس على مقاعد الدراسة , وزيادة أوقات العمل والتدريب . أى التحول من النظرى إلى العملى . كما يهدف إلى خلق مجتمع يسعى إلى التعلم الدائم , ويطالب بأن تكون المدارس مبانى صغيرة فى المصانع والمزارع – خصوصا فى المدن الجديدة –
وفيما يلى النظام الذى يدعو إليه الدكتور عياد :
" أقترح أن يكون فى مصر مراحل ثلاثا , كل مرحلة منها أربع سنوات , تبدأ فى سن السادسة , وتنتهى فى سن الثامنة عشرة , حين تبدأ الدراسة العليا للصفوة القادرة على الابتكار . وينبغى أن تكون المرحلة الأولى مقصورة على تعليم القراءة والكتابة ومبادئ الحساب , وتدرس المعلومات العامة الضرورية فى ثنايا دروس القراءة .
أما المرحلة الثانية فيتعلم فيها الصبى أو الصبية حرفة إلى جانب التثقيف العام .
والمرحلة الثالثة يستكمل الصبى مهارته الحرفية , ويحسن أن يكون " تلميذا عاملا " فى مزرعة أو ورشة كبيرة أو صغيرة . وتتاح لذوى الاستعداد الفائق خلال المرحلتين الثانية والثالثة متابعة مناهج إضافية خاصة تؤهلهم للالتحاق بالجامعة ."
هذه بعض المبادئ العامة التى يدعو إليها المؤلف – رحمه الله – وقد أوضحها تفصيليا فى أنحاء الكتاب . وأظن أن هذه الأفكار صعب تحقيقها , لأن ذلك يتطلب تغيير الأفكار , وتغيير الواقع وإخلاص النوايا , ومواجهة المستفيدين من حال التعليم بوضعه الحالى , ويتطلب مواجة معوقات لا قِبل لأحد بها , لأنها أصبت من ثوابت المجتمع , وتوافق الجميع معها مثل : الكتب الخارجية , والدروس الخصوصية .. كان الله فى العون .
من قضايا الكتاب
هذا الكتاب القيم يبحث فى أهم مشاكل المجتمع , وقد خاض فى عدة قضايا , وكشف المستور من حال الجامعات المصرية , ويتضح فيه ألفة الكاتب وقربه من مجتمعه , ولغته السهلة التى تستعين بالعامية الجميلة المعبرة أحيانا , ومن قضايا الكتاب :
· مشكلة الكتاب الخارجى , والمذكرات , والملازم :
يقول رأيه العميق فيها ,والذى أتمثل به كثيرا , والذى نسير عكسه على طول الخط : "" إنها تهدم كل مايحاول المربون المخلصون أن يبنوه . فالمربون الذين يستحقون هذا الوصف الشريف يبنون عقول الطلاب . والطالب الذى تتحول المادة العلمية أمامه إلى فتات لا علاقة بين ذراته , لايلبث أن يفقد القدرة على رؤيتها ككلٍ مكون من وظائف , وبذلك تفقد معناها , وبدلا من تسهيل عملية الحفظ عليه , يصبح المسكين دائم القلق , تشرد منه هذه الجزئية يمينا فلا يعرف أين ذهبت , وتهرب منه هذه الأخرى شمالا فيبحث عنها عبثا .
أنت تقول عن الشخص الذى لا يحسن التعبير عما فى نفسه بجمل منتظمة , إنه " لايجمع ط" فما بالك تترك ابنك أو ابنتك حتى يتحول عقلهما إلى تأتاء أو فأفاء ؟ ويكفى أن يستمر على هذه الحالة عاما أو بعض عام حتى يصبح عاجزا عن قراءة كتاب مستقيم التأليف , حتى لو يسرنا له الكتب , وأغريناه بالجوائز.
أريد أن أقول لكل محتال من هؤلاء : بخٍ بخ ٍ , عفارم , برافو أحسنت . فلا الوزارة ولا القانون نفسه , يمكنه أن يحمى المغفلين . ""
هكذا أحسن أستاذ الأدب العربى الدكتور شكرى عياد التعبير عن هذه المشكلة الأساسية .
· ضعف مهارتى القراءة والكتابة لدى المتعلمين فى جميع المراحل , حتى أن الدكتور عياد كان يخصص عشر دقائق فى بداية كل محاضرة لقواعد الإملاء ( لطلبة الجامعة ) عندما اكتشف الضعف المزرى لمستوى الطلبة .
· قضية التعليم لا تخص الحكومة فقط , بل هى قضية مجتمع , ويطالب بمساهمة الجمعيات الأهلية مساهمة فعالة
· كثرة الثورات التعليمية بمعدل ثورة كل عشر سنوات بلا نتيجة , لأنها بعيدة عن المدارس , وما يجرى فى المدارس , وهو يسميها أشباه ثورات , لآنها مجهضة دائما لما يأتى :
"" يعمل المسئولون على ضرورة تصحيح مسار التعليم . تؤلف لجان فى الوزارة لبحث خطط التعليم , وبرامج الدراسة . تقدم اللجان تقاريرها إلى لجنة أو لجان عليا , تؤلف لجان أخرى لوضع كتب مدرسية جديدة , أو يعلن عن مسابقات لوضع هذه الكتب , وتقوم لجان الوزارة بفحص الكتب المقدمة واختيار أفضلها . تقرر الكتب و تطبع وتعمم فى جميع المدارس الحكومية والخاصة , وكثيرا ما تثبت التجربة أنها أسوأ من الكتب السابقة " "ً ص 47.
· البحث عن شهادة , وليس عن تعليم حقيقى .
· حب المادة الدراسية من حب التلميذ للمعلم .ويحكى الدكتور عياد حكاية لها دلالة كبيرة ,حدثت له مع معلم الرياضيات الذى أساء إلى ذكاء الطفل ( شكرى عياد ) فجعلته يكره مادة الرياضيات طول عمره .
· أصل الداء فى المرحلة الابتدائية , ويعنى ذلك ضرورة الاهتمام بهذه المرحلة لإتقان المبادئ الأساسية للتعليم : القراءة والكتابة والحساب .
· البحث عن الكم على حساب الكيف . ويعطى أمثلة صارخة من مستوى الدراسات العليا فى الجامعات المصرية , ويدلى بشهادة واقعية خطيرة مفادها أن عُشر الرسائل المقدمة فقط تنطبق عليها الشروط من حيث الابتكار والإضافة إلى العلم . وعلى حد تعبيره : تحولت الجامعات إلى مدارس عالية مكتظة بالطلبة الذين يتخرجون مهنيين غير أكْفاء .
· ضعف مستوى البحث العلمى فى الجامعات , وندرة المجلات العلمية . وهذه قضية دائمة , وأذكر أن الدكتور فاروق الباز نبه إليها كثيرا , وكذلك معظم العلماء . وهذه القضية تحتاج دراسية خاصة لخطورتها وأهميتها .
هذه بعض القضايا التى عالجها الدكتور شكرى عياد فى كتابه الذى يعد علامة فى الدراسات الخاصة بمستقبل مصر . صدر من أحد عشر عاما , ولم أجد له صدى فى الحياة الثقافية .. قرأته وقتها , واهتممت به , وأهديته لبعض الأصدقاء المهتمين , وأردت أن أعرضه للزملاء , وللمهتمين بالمستقبل , والتعليم هو المستقبل .