الشعر الحيوى
فى ديوان قال الشجر للشاعر
ربيع عبد الرازق
حسين أحمد إسماعيل
***************************************فى ديوان قال الشجر للشاعر
ربيع عبد الرازق
حسين أحمد إسماعيل
· ( إن لى اشتباكا بالطبيعة )
قال الشجر هو الديوان الأول للشاعر ربيع عبدالرازق – تذكروا هذا الاسم جيدا فهو لشاعر من أبرز شعراء جيل الثمانينيات فى مصر .. استفاد من التراث العربى الباذخ الثراء , وتمثله جيدا , وكتب شعرا حداثيا ملتهبا كثيف الصياغة , مدهش الصور , مشحونا بتوتر حاد , يستضىء بنار الروح المتوهجة بالألم والغضب , وبرحمة الفن المنقذة من قبضة الواقع :
واهب السطر النماء ,
وشاحن اللغة الكليلة بالتفجر والسخونة والغناء
هذا الشاعر الذى كأنه يحمل أخطاء العالم ويرى جنته تحترق , ويسير كأنما يرى مدينته وقد ضربها زلزال :
لماذا تسقط الأرض الصريعة
فى دمى وحدى؟
وما شكل العلاقة بين ماء البحر والشريان
يرتفع , يرتفع :
أنا هواء سائح
ينساب فى سقف المدى
· ( حطمت الثوابت والبديهيات )
يمكن أن نسمى شعر ربيع عبدالرازق " بالشعر الحيوى " أى الشعر الحى الذى يتفاعل مع كل ما حوله , ويشتبك مع الواقع النفسى والاجتماعى فى صراع دائم ومرهق ( إن لى اشتباكا بالطبيعة ) وتقوم حيوية الديوان على تفاعل محاوره الأساسية , وهذه المحاور هى :
- إضاءة الذات/ معرفة العالم
- وهج المكان المعتم
- التعبير بالصور المدهشة
- حيوية الإيقاع
- إحياء التراث
- الحس الصوفى
- الاستفادة من بلاغة القرآن الكريم
- صدمة اللغة
· إضاءة الذات معفة العالم :
من المعرفة يتولد الألم , لذلك يتألم الشعراء , وهم العارفون الأقطاب , كما تألم المتنبى , أحدث الشعراء
" أفاضل الناس أهداف لذا الزمن * يخلو من الهم أخلاهم من الفطنِ "
يغوص ربيع عبدالرازق فى عالمه الخاص كأنه بقاب يبحث عن الجواهر فلا يجد غير اليأجوجيين والمغوليين يحتلون مملكته كإعصار من الشر , ويغطون وجه الأرض :
كيف يندس المغوليون باسطنها
وينتشرون فى كل العواصم ؟
فيواجه العالم : حطمت الثوابت والبديهيات
وهكذا كتب الشاعر بطاقة عذابه , فلابد أن يمنعه الجميع كأسلافه الشعراء الأوائل , ولكنه يجاهد ليرفع نفسه من الموت :
ارفع رفاتك يا ربيع
لتركب المهر الأخير إلى المصبات البعيدة
ماذا ينبغى لذلك الورقى غير الأحلام , والطوح ,والعجز عن الفعل , ومن قبضة الكوابيس , وتجهم العالم يبقى ضياء الحب الغائب وخمرة القلم والأوراق
· وهج المكان المعتم ( اختصر الكون بجفن إسطنها )
قال عبد الحكيم قاسم : " الكراهية أعظم مواهبى " يقصد كراهية الظلم بمعناه الشامل , وربيع عبدالرازق يفضح الواقع بلغة هى الجمر .. متوهجة وصادمة .. عن الفقراء , عن أهل قريته إسطنها شرع قلمه .. إسطنها قلب العالم الثالث وبؤرته : الحوائط الطينية الكئيبة , والحوارى الضيقة القذرة , والأسقف التى يهزأ بها المطر , ومسيرة الشاعر اليومية فى درب الحياة الموحلة بضد القيم . للمكان حضور طاغ , وللموت اليومى فى حياته المهلكة ..
أول قصائد الديوان هى : مكابدة الإسطنهى .. انتساب لا مفر منه , وتأكيد على المكان , فإسطنها هى مسقط رأس الشاعر:
إسطنها
تشيعنى صباحا بالزفير المُرِّ
تحرقنى البيوت بجوع عينيها
........................
شارع الكورنيش فى بنها
يشاطرنى بكاء النيل
.........................
كيف أنقل للصغار حكاية إسطنها ؟
..............................
وقلب بنها حالك يمتص أطلال الحبيبة
وحين يعود الشاعر فهناك الذين ( يثبتون خرافة الصلة الضئيلة بينها والطين ) إسطنها , كفر مناقر ,الرياح التوفيقى , ميدان المنشية , نفق المنشية , مسجد العاصمى , مقهى حيدر , النيل .. كل هذه الأماكن تحيا حياة كاملة فاعلة فى قصائد الشاعر
( إسطنها
كانت لما يبتدئ الموتيون يرشون العتمة
ترفع حاجبها ينفلق الإصباح من المشرق للمغرب )
· إحياء التراث :
يتفاعل الماضى بمواقفه المضيئة مع الحاضر على مستوى الديوان , فأحداث اليوم تكرار لأحداث الأمس . ألم يستفد العالم من أخطائه ؟ بلى , لكن الشاعر استفاد متأسيا على أصحاب المواقف ,
البحترى اليوم يأخذنى إلى القاطول
يبكينى على قصر الخليفة
...............................
كان المتنبى
بين الفرقين يحدثنى
كيف بنى مملكة بالشعر لسيف الدولة
وعفاريت الشعر بعبقر صبت لعنتها
واتهمته بالكفر , وقالت : يُقتل بالشعر
· الاستفادة من القرآن الكريم :
استفاد الشاعر بشكل ملحوظ من بلاغة القرآن الكريم فى معظم شعره , فهو يصف مدنه الكابوسية بأوصاف طعام أهل النار : مدن تخرج لى سكانا بعيون غسلين , ورءوس زقوم . ويقابل الوصف السابق حلمه الخاص لقريته : فتصبح أنهارا من عسل , أنهارا من لبن , والورقيون يشوفون بخديها ملا يخطر بالقلب .
جعل الشاعرجسمه بحرا يأتى خلاصه من نفسه فى لحظة كشف : قلت : اضربى عصاك بجسمك البحرى , وامشى بين طوديك ارتفعت . سين هاء ألف ميم تلك آيات الجمال المستديم .
· الخطاب الصوفى :
من الملامح البارزة فى الديوان هذا الحس الصوفى الذى يغلف خطاب الشاعر وصلته الفنية بالكلمات , ومحاولات إطفاء ناره الداخلية فلا ينجح . ذلك لأن الصوفى يبحث عن خلاص نفسه محاولا الابتعاد عن الحياة فإن خرج عن هذا سقط فى هوة الاغتراب عن واقعه المحبط , كأنه استيقظ على إعصار , ولا يحق له العودة , لأنه خرج بإرادته .. لقد تلبست الحالة الصوفية الشاعر فى قصيدته : لعب فى الخطاب والنزول , وقصيدته : مستمرا ما يزال اللعب .
· التعبير بالصور :
( تمتمت أوراق عظمى بالنشيد )
يقوم أداء الشاعر الفنى , ويعتمد على الصورة المجسمة المدهشة كطريقة أساسية للتعبير , والديوان غابة من الصور الجديدة الكثيفة , ولو قرأنا أية صفحة فى الديوان لوجدنا الدليل على أداء الشاعر , وطريقته الخاصة التى تذكرنا بطريقة الشاعر الكبير / محمود حسن إسماعيل فى التعبير بالصور الجديدة المبتكرة .
· حيوية الإيقاع :
لم يعتمد الشاعر فى موسيقاه الشعرية على التفعيلة الصافية بكل تغيراتها , بل قامت بعض القصائد على الإيقاع الذى يعبر عن الحالة النفسية , يلائم هذه المشاعر , ومثال ذلك قصيدة الربيع الذى كان يسكننى , فالموسيقا فيها لا تسير على نسق ثابت بل تتعدد فيها التفاعيل بلا نشاز مما يعطى القصيدة حيوية فائقة .. التفعيلة الأساسية هى مستفعلن , ولكن القصيدة تبدأ بداية موسيقية قصيرة : فاعلن , فعولن مفاعيلن , مع استخدام حروف المد بكثرة فى نهاية الجمل , مما يدل على استغراق الشاعر فى حالته النفسية .
لا تشبه الموسيقا إيقاع الخطوات المنتظمة الهادئة , بل تشبه إيقاع الخطوات فى ساحة المعركة , وهى موسيقا من يقفز فوق الأشواك , وتستريح فى نهاية الفقرة بالتفعيلة : مستفعلن فاعلن .. ويعطى هذا الموسيقا القصيدة جدلا موسيقيا إن صح التعبير .
· صدمة اللغة :
بلغة هى الجمر , ساخنة , متوهجة , مشتعلة بغضبها الدائم , صادمة للذوق السائد والمألوف وللكسل الفنى .. صادمة لمن تعود اللغة الرومانسية الرقيقة وأخذ من الشعر اسمه الجميل .. بلغة مستعدة دائما للعراك , بلغة مهاجمة عبر الشاعر عن بركانه , مثال ذلك قصيدة : شخبطة , بل إنه أدخل السباب الذى نسمعه فى الشارع فى نسيج قصائده ..
- تفاعل المحاور السابقة على مستوى الديوان فى حيوية بالغة يتطلب من القارئ إيقاظ حواسه لتستقبل شحنة الوهج الفنى .. وبعد ,, يفتح ديوان : قال الشجر , الصغير الحجم بابا كبيرا للثقة والأمل بطاقة الشعر الحيوى , وينقذنا من ملل تشابه القصائد والدواوين رغم اختلاف أسماء الشعراء
****************************************************************
من قصائد الديوان , مقطع من قصيدة
ولد ورقى :
تتفتح فى الذاكرة شعاب من وهج
حين تمرين بظلمتها
تأخذنى عيناك من الوقت
فهل يشتعل الجسم كملا تبغين
ولا ترحمنى عيناك من الأسئلة الحارقة ؟
- وهل وحدى كنت النفاذ إلا كبد الأشياء
تراوغنى مكتفيا بالنوم على كفيك ؟
وقلت الديمومة للدوام
فأطفأ بخاخو الليل فؤادى , واشتبك الموت بجسمى
سلمت إليه الروح ورحت أعنف أعضائى
فلم تسقط من رأسي مدن كانت تملؤنى
كنت أعبئ فى عينيها وقتى ومكانى
ولماذا عند غروبك يتحمل عنها الناس
وتنبت فى رأسى مدن تخرج لى سكانا
بعيون غسلين ورؤوس زقوم
آآآآآآآآآآآه لو ينتثر الرأس أمامى
كى أمسح هذى الأدران
العالقة أغير عينى
تقولين بأنى ولد ورقى
أطفئ وجدى فى جسد الأوراق
وأنى أرنو فى عين اسطنها
فأراها صقرا محتضرا أحيته الريح المشئومة
أو نفخت فيه فكان بإذن الريح غرابا
يمتد جناحاه من المشرق للمغرب
وأنا ريشته الشوكية
يغرسنى فى عينيك فلا تغرقنى النيران
المندفعة من مهجتك
وأنى وجميع العشاق الورقيين
نقطر أنهار اسطنها بين حنايانا
ونزوج جنيات البحر بأفراس الأنهار
فتصبح أنهارا من عسل , أنهارا من لبن
والورقيون يشوفون بخديها ما لا يخطر بالقلب
*****************************************************************
نشرت هذه القراءة فى العدد الأول من مجلة إشراقة التى كانت تصدر عن نادى أدب بنها , وكنت أرأس تحريرها , وأصدرت عددين قبل أن أترك النادى وأقدم استقالة , وذلك لكثرة المشاكل التى تستهلك الوقت فى أفعال صبيانية ومراهقة .. وصدر العدد الأول فى يناير 1998
*******************************************************
الشاعر فى سطور
- ربيع أحمد عبدالرازق
_ ليسانس آداب جامعة بنها - قسم لغة عربية 1986
مواليد قرية إسطنها منوفية 8/8/1962
ويعمل معلما أول للغة العربية فى التربية والتعليم
صدر له ديوانان - قال الشجر عام 1995, ومكابدة الإسطنهى