تذكرة أم كلثوم
قصة مهندس : جمال شاكر
ـ لن أبرح مكاني ... حتي تأتي أم كلثوم ؛ سأشتكي لها ؛ ولا ريب أنها ستوافق علي دخولي لأشاهدها وهي تغني!!
وهنا أقبلت مديرة السينما من الخارج إلي مدخل سينما " الهمبرا " بالإسكندرية ؛ فإذا بها تشاهد صبية دامعة العينين ترتدي الأسمال حافية القدمين تجلس علي البلاط بالقرب من شباك تذاكرحفل كوكب الشرق ؛ وأمام تلك الفتاة بدت صرر من القماش ربط عنق كل منها بزيق من الخرق ..
ـ ما خطبك يا صبية !!
ـ لن أقوم من مقامي حتي تأتي أم كلثوم ...
فتساءلت المديرة من خلال طاقم أسنانها بعد أن عدلت من شعر " باروكتها " الشقراء التي تطاولت بعض خصلاتها علي عينيها :
ـ افصحي بنيتي !!!
ـ رفض موزع التذاكر أن يدخلني ..
ـ بسبب رثاثة ملابسك أم بسبب حفائك !!
ـ لا لهذا ولا لذاك ياسيدتي ..لم يقبل نقودي !!
ـ ثمن التذكرة عشر جنيهات !!
ـ أعلم ذلك ؛ فأنا في المساء أخدم لدن السيدة " أم جمال " في حي المندرة ؛سمعت عندها بخبر الحفل عن طريق " الراديون " في الشهر الماضي ؛ ومن يومها وأنا أدخر ما يواتيني من نقود ؛ السيدة أم جمال حضرت تلك الحفلات كثيرا وأخبرتني بثمن التذكرة ؛ أنا أخدمها في المساء ؛ أما في الصباح فأبيع الجوافة والبلح " الرامخ" في صحون من الصاج ..أبيعها مناصفة مع " أم محمد بنت الحاج عبده " صاحبة الغيط القريب من عشة جدتي بالمندرة ..
ـ أين إذن نقودك التي يرفضها موزع التذاكر ؟؟؟
ونهضت الصبية وقد تقطب وجهها ملتقطة كيسا كيسا :
ـ هذا الكيس .. كبير : أي نعم !!لأن به خمس جنيهات بأثرها ...
ـ بأثرها !!!
ـ أجل سيدتي ..ولكنها مليمات ...وها هو الكيس الثاني بداخله جنيهان من فئة " "البرونزات " ...والكيس الثالث به جنيه ونصف من فئة " القرش صاغ " ..أما الكيس الرابع فبه جنيه ونصف من فئة " التعريفة " .. هذا وفي جيبي عشرة قروش " شبرقة " ..
ـ ماذا تقصدين بشبرقة !!!
ــ أي سأشتري بها " أرواح " ...
ـ ما هي الأرواح يا صبية !!
ـ كرملة بالنعناع ...
ـ كيف أتيت إلي هنا !! إلي محطة الرمل !!!
ـ يالقطار ..ومشيت من محطة " مصر " إلي هنا ؛ ولا أكذبك ...ركبت القطار " سنس" ..
ـ ماذا تقصدين ب " سنس " !!!
ـ " برشوت " ...
ـ ما معني " برشوت " !!
ـ يعني " سفلقة " يعني " زوغت من الكمسري " ..
وأردفت الصبية وقد عادت إلي جلستها ::
ـ سأنتظرها حتي تأتي ..سأحمل إليها أكياس نقودي ؛ وطبعا لن ترفضها ...أنا أريد أن أنفعها ..إنها حبيبتي وأعشق صوتها ..أسمعها كل صباح علي محطة المندرة وأنا أبيع صحون الجوافة والبلح " الرامخ " لطلبة المدارس ..أسمع "يا صباح الخير يا للي معانا " ...وأسمع " الورد جميل جميل الورد " ؛ فأطير وأقفز من الإنشراح ؛ لقد حزمت أمري علي الحضور في غفلة من جدتي ؛ فهي تعلم أنني أخدم السيدة أم جمال كل مساء ؛ ولعل جدتي الآن تغط في النوم ومع الملائكة ....
وتساءلت المديرة وهي تنظر في ساعتها الذهبية :
ـ وأين أمك وأبوك ؟؟
ـ ماتا ...كان أبي زكي " مبيض نحاس " ...لم يبق لي في الدنيا غير جدتي " خضرة خضرجي العاجلي " ...
ـ هذا اسم جدتك !!
ـ أجل ...ويدعونها هناك " أم زكي النحاسة " لأنها كانت تبيض النحاس مع ابنها ..كانت تتولي النفخ في الكور ...
ـ ولكن ..ألا تعلمين أن سهرة أم كلثوم طويلة ؛ وجدتك سوف تفتقدك وتقلق عليك !!
ـ إنها يا سيدتي تنام عند هبوط الليل في عشتها بحارة " شعبونة " ولا ينقلب لها جنب إلا في الصباح ..مرة في العمر تكفي يا سيدتي ...
تبخرت السيدة من أمام الصبية متجهة إلي مكتبها ؛ ومر الوقت والصبية ما تزال متمسكة بجلستها ؛ بيد أنها فوجئت أخيرا بأحد المظفين يقبل نحوها :
ـ السيدة المديرة تطلبك في مكتبها ...
ـ هل ستقبل النقود وأشاهد كوكب الشرق !!!
ـ لا أعلم ...تفضلي معي ...
وسارت الصبية من خلف الرجل ذي الحلة الزرقاء ؛ حاملة أكياسها في حرص شديد ؛ وعندما مثلت أمام المديرة وضعت صررها فوق المكتب ؛ ثم وقفت معتدلة القامة وقد تألق محياها الجميل وذوائب شعرها الأسود الحريري <فابتدرتها المديرة باسمة :
ـ افرحي إذن !!حضرت كوكب الشرق ؛ ودقائق حتي يرتفع عنها الستار ...
قفزت الصبية وتطاير شعرها وكأنما يرحب هو الآخر بفنانة الشرق ؛ وقالت من خلال دموعها الغزيرة :
ـ أسأشاهدها إذن !!! أستقبلون نقودي !!! يا لفرحي وانشراحي !!!
ـ اتركي نقودك ؛ وادخلي من هذا الباب ؛ اجلسي علي أي مقعد شاغر يقابلك ...
ـ دعيني أقبل يديك سيدتي ...بل دعيني أقبل قدميك !!
ـ هيا هيا ...لا تضيعي الوقت ؛ وعندما ينتهي الحفل احضري هنا ....
وفي أحضان الفرحة الغامرة تلاشت الصبية لتحتويها صالة الحفل ...
كان الجمهور كبيرا حقا ؛ وارتفعت الآهات والتأوهات نشوة وانتشاء ؛ ونسيت البنت نفسها ؛ فراحت تميس بجسدها وشعرها مع الأنغام وتقاسيم القانون المصاحب لصوت الكوكب المعندل ؛ وسرعان ما لفتت الصبية انتباه الأسر المتواجدة بأولادها وبناتها ...لقد كان حبورها يفوق كل حبور ...كان دمعها في مسابقة مع تبسمها ؛ ولم يملك لا الرجال ولا النساء ولا أولادهم إلا أن يغدقوا عليها بمزيد من الآيس كريم والحلوي والجاتوه وسندوتشات اللحم مع زجاجات السنالكو والسيدر ...
انتصف الليل ؛ وقد التهبت الأكف بالتصفيق وتهدجت الحناجر وبحت الأصوات تشجيعا وطربا...
وآن للحفل أن ينفرط عقده ؛ وإذ يتلاشي الجمهور ؛ كانت الصبية تتسلل إلي مكتب المديرة التي كانت قد أقبلت لتوها ...
انطلقت عربة المديرة الرءوم بالصبية نحو المندرة ؛ وعند المحطة هبطت الصبية حاملة صرر نقودها ؛ وقبيل أن تمضي المديرة بسيارتها عائدة : همست للصبية مقبلة لها :
ـ ما اسمك يا صبية حتي أتذكرك دائما ؛ وأتذكر حبك الملتهب لكوكب الشرق
ـ اسمي ..خادمتك ... أم كلثوم ...
وتسللت أم كلثوم إلي حارة " شعبونة " حيث عشة جدتها ؛ وفتحت الباب فصدرعنه صوت متحشرج ؛ سمعته " خضرة خضرجي العاجلي " ؛ فهمست في وهن :
ـ من ؟؟
ـ أم كلثوم ...
ـ أحضرت يا أم كلثوم ! لقد ملأت لك صحني الجوافة والبلح ؛ وإن كنت جائعة فطبق الجبن والمش خلف الباب ...،،،،،،،