دعما للسياحة المصرية
الأهرام يغمرها السحر والخلود
أسطورة الهرم الروحى
حسين أحمد إسماعيل
الأهرام يغمرها السحر والخلود
أسطورة الهرم الروحى
حسين أحمد إسماعيل
أدعوكم لزيارة الأهرام موطن الشمس المشرقة , وأبى الهول ذلك المعبود القديم .. إن منظر الأهرام ساحر , ويخطف الألباب بسطوة جماله ومعناه .. إنها الرمز الأكثر تجريدا وغموضا وجمالا فى العالم .. انظر إليها من بعيد , وفرغ عقلك من مشاغله لتتأمل تلك الأعاجيب المصرية التى تشهد بتفرد وعبقرية أجدادى الفراعنة العظماء الذين وصلوا إلى الحقائق من أقصر الطرق .
يا حبذا أن تذهب إليها وقت شروق الشمس , حتى لا تفوتك الروعة والبهاء والرهبة أيضا , وعندما تدخل إلى حرمها , فاعرف أن هذا كان مكانا مقدسا من ألوف السنين , ولابد أن تخطو فى هدوء فى ذلك الأفق المشبع بالنور .. كن هادئا لتصل إلى لمحة من المعرفة الروحية فى هذا المكان المغناطيسى , واعرف أنك فى قلب العالم علما ومعرفة وإنسانية , فهنا كان السعى الحثيث , والشغف الروحسى بالحياة .. العشاق يأتون من أقصى الكرة الأرضية , ويعبرون القارات والجبال والمحيطات ليزوروا هذا المكان الخصب بفتنته , فلماذا لا تزور أهرامك أيها المصرى ؟ .. هنا بوابات العالم .. تعال , واستمتع بالدهشة البكر , وافخر بمصريتك وعراقتك .. ستتدفق دماء العزة فى عروقك , وسترفع رأسك عاليا , وتتعلم التواضع أيضا .
انظر إلى أبى الهول ذى المهابة والجمال الذى كان يحج إليه المصريون , ويتركون نذرا لتحقيق مطالبهم , واستشفاعات لحارس الشاطئ الغربى .. الذى حكى عنه المقريظى : كان لونه أحمر , وملامحه وسيمة ومهيبة , وكانت الرمال تغمره حتى رقبته , ولأنه لم يكن يعرف شكله الحقيقى , فقد قال : بالنسبة إلى وجهه فيجب أن يكون ارتفاعه واقفا سبعين ذراعا .. وقد كشف عنه الرمال العالم المصرى الأثرى الكبير / سليم حسن , مؤلف موسوعة : مصر القديمة . أبو الهول أيقونة التاريخ العالمى , يستقبل الشمس صباح كل يوم , ويرى الحضارات تقوم وتزول , ويسخر من الطغاة دائما , ويعرف مصيرهم , فقد رأى منهم أوباشا كثيرين يمرون على أرضه .
وإذا تجولت إلى الجنوب قليلا فسوف تشاهد تسعة أهرامات بشكل يملأ قلبك بمشاعر شتى من الدهشة والإعجاب , والديمومة , ولو تركت الطرق الرئيسة التى يسير فيها الناس ستشاهد معابد مخفية وعجائب , وسترى عشرات من بقايا الأهرام الصغيرة كل هرم بارتفاع عدة أمتار , حتى أننى مشيت فى شارع على جانبيه أهرام كثيرة , وأحصيت أكثر من أربعين هرما كانت مدفونة تحت الأنقاض عندما تم هدمها وتخريبها بحثا عن الكنوز , ومن أجل بناء القصور وأسوار القاهرة والكنائس والمساجد فى العصور المظلمة , كما نزعوا كسوة هرمى خوفو وخفرع وأكثر من نصف كسوة هرم منقرع لأنها من الجرانيت الصلب , وحكى المقريظى أن كتلة الصخر كانت تسقط من أعلى الهرم الصغير , فيسمع لها قعقعة عظيمة وهى تصطدم بالصخور .
وبجوار الهرم الأكبر متحف مركبة الشمس والتى اكتشفها كمال الملاخ , وأماكن اكتشافها محفورة على شكل مراكب شرق الهرم , وهى المراكب التى يعبر عليها الفرعون إلى العالم الآخر .
تغلق منطقة الأهرام الساعة الرابعة , وفى مرة نمت على ظهرى محدقا فى السماء على تلة أشاهد الأهرامات التسع من بعيد , نمت ساعتين, واستيقظت , وكنت وحيدا فى قلب السحر مع شمس الأصيل التى تغمر كل شىء بالذهب .. سرت ساعة بين التلال أهبط حتى تغيب عنى الأهرام , وأصعد فأراها تغمر المكان برسوخها ومهابتها .
من أول ترعة المريوطية يمكنك أن تركب إلى أهرام سقارة على بعد عدة كيلومترات , وسوف تمر على أهرام أبو صير , وبعد سقارة بعدة كيلومترات سترى أهرام دهشور .. بدأ التاريخ من هنا , والفن بدأ من هنا , والقوانين والشرائع والضمير من هنا .. هنا مهبط الملائكة , وفى الأفق طريق بين الأرض والسماء , حيث تدفق النور إلى قلوب المصطفين الأخيار الذين وحدوا الله , وعظموا كل مخلوقاته .. كان الفراعنة أرق وأجمل البشر فى تعاملهم مع مخلوقات الله , فهى شمس إبداعه .. هكذا تعامل أجدادى مع روعة الحياة بروعة تتقصى مفاتنها .. الشعب المصرى هو شعب مؤمن قديم , وكان الفن المصرى فى مجمله فنا دينيا يهدف لخدمة البعث فى الشاطئ الآخر .
زيارة أهرام سقارة واجبة , وفرض عين على كل مصرى عاقل أصيل , وهى منطقة هادئة , وتسمح بالتأمل وبانطلاق الفكر والمشاعر , والدهشة الغامرة , وهى أفق مفتوح – كأهرام الجيزة , وكأى أهرام – على أسئلة لا تنتهى .. عندما ترى الهرم المدرج الأقدم فى العالم , والذى خط خطوطه إيمحوتب المهندس المعمارى الخالد ستعرف – إن لن تكن تعرف – لماذا مصر أعظم بلاد الله فى الأرض , والشمس لا تنتمى لأى مكان إلا لمصر ..لن ترى الأهرام فى رونقها القديم , وسوف تحتاج إلى خيالك الخصب لتصل إلى حيويتها الروحية , حيث انتهت , وكأنها انتهت توا .. سترى البهاء الأسطورى لتلك المنطقة الخالدة المقدسة .
سترى أيضا السرابيوم , وسترى حفرة مربعة عميقة جدا تستوعب عمارة من عشرة أدوار , وفى عمقها حجر دائري كبير .. وفى سقارة مقابر ومعابد من الطين أعجوبة فى هندستها , وإذا سرت نصف ساعة فى الصحراء بين التضاريس الجميلة سترى بقايا معبد القائد الشجاع الرائع حور محب , سترى كيف تغلب العباقرة على وقدة الصحراء صيفا , فجدران المعبد عرضها أكثر من متر من الطوب اللبن ومكسوة بالحجارة من كل جانب , فلو لم تشاهد داخلها لظننتها جدرانا سميكة من الأحجار .
أسطورة الهرم الروحى
وقرب منطقة سقارة – ربما بين سقارة ودهشور – ولدت أسطورة الهرم الروحى , أعظم أهرامات مصر , ومجد الحضارة المصرية , وذروة عقيدة الشعب المؤمن .. والهرم الروحى إشاعة أطلقتها أنا كاتب هذه السطور , واعتقدت بها أكثر من الحقائق الملموسة بالحواس , لأنها من وحى ربة الأحلام التى تفوق الواقع الجميل جمالا بألوف المرات .. الهرم الروحى لا يظهر إلا ليلة واحدة فى كل عام , ويعرفه العلماء , ولهم أقوال وكتابات وحكايات ملونة عنه , كما يعرفه الصوفية والدراويش ,ويقيمون الموالد كل عام أسبوعا كاملا احتفالا بالهرم الروحى , وينشدون الأشعار الروحية , وأناشيد إخناتون , ويسمع عنه الشعب عجائب , وينسج حوله الخرافات .
ويقال : إن من يدخل الهرم الروحى يصبح خالدا , ويظل شابا إلى الأبد , ويعرف الماضى والحاضر والمستقبل , ويتميز بمعرفة علوية أغلى من جميع كنوز الأرض . وقد ظل كثير من الكهنة يعتكفون طوال عمرهم , يصلون ويتضرعون ليشرق فى أفق أرواحهم الهرم الروحى .. ويقال : إن من دخله فى تاريخ كيمت ( مصر ) ثلاثة , وربما سبعة أشخاص اصطفاهم الهرم , ويؤمن كثير من أتباع آتون أن إخناتون دخل الهرم , وأن الهرم ناداه عندما كان شابا, ولا أحد يعرف الحقيقة , وظلوا يؤمنون أن إخناتون ابن الشمس لم يمت , بل اتحد بأتون , وأنه سيعود فى آخر الزمن ليوحد مصر , ويطهرها من دنس الآلهة المتعددة , ويعود إلى الأصل النقى , إلى آتوم الواحد المتجلى .
سأقول لك شيئا : حاول أن تركز جيدا , وأن تغمض عينيك ,وأن تصلى صلاتك التى تحسنها , وتشحن روحك بالطاقة الإيجابية فى الكون – لا تسخر وتظن هذا كلاما إنشائيا – فربما – لو كنت مجدودا – تسمع رفرفة أجنحة ملائكة السحر القديمة - والتى يدعو مرآها للبكاء نشوة – وهى ترفرف فى الأفق فوقك , وتنشر السحر على المكان حجرا حجرا , وشبرا شبرا , وإذا استمعت إلى غناء الملائكة حول الأهرام , فلن تنسى ذلك أبدا , وسوف تغسل رقرقة غناء الضحى روحك , وتجعلك إنسانا مختلفا , وأفضل ألف مرة .. سأقول لك سرا : أنا باركتنى أغانى الملائكة مرة , وسيطرت على روحى , وهاأنا أعيش فى غيبوبة مجذوبا خلف تلك اللحظات العليا .
إذا كان اليوم صحوا , وكان الضباب الفرعونى خفيفا , وكنت فى سقارة فى المكان المتوقع للهرم الروحى , وهو من الأماكن المقدسة التى يستجاب فيها الدعاء , ونظرت إلى الشمال سترى أهرام سقارة ,وبعدها أهرام أبو صير , وبعدها سترى أهرام الجيزة على حد الأفق بتدرج رائع . وإذا نظرت جنوبا سترى أهرام دهشور , وعلى بعد أربعين كيلومتر تقريبا سترى بعين خيالك هرم ميدوم , وأهراما أخرى , ومعابد رائعة تتلألأ تحت الرمال , ومقابر تنتظر البعث محتمية بتعاويذها .. ألم أقل لك أنها منطقة ساحرة تعشقها الشمس من قديم , وتأنس بها ؟!!! ..
ابن الشمس المتلألئة ( العائش فى الصدق )
الشمس هى الرمز لعبادة إخناتون , فقد وحد الآلهة المتعددة فى إله واحد ورمز له بأكبر مظهر من مظاهر الحياة , وهى الشمس (آتون رع ) وصورها بأيد ممدودة بالخير والعطاء .. فى ظلام العصور أشرقت عبادة إخناتون شاعر التوحيد ملتهب العاطفة بعشق إلهه , وصاحب الأناشيد المدهشة, فقد كان يعرف الخالق مثل المؤمنين الآن وأفضل كثيرا , بإحساس صوفى مضطرم سيطر على روحه وجسده قبل الميلاد بأربعة عشر قرنا , عشق النور الأول الذى خلق كل الموجودات , ورآه صافيا أصفى من قطرة الندى تلمع تحت الشمس , وأعظم من كل شىء , وأكبر من جميع الأفكار ..
اصطدم إخناتون بكهنة آمون – المعبود القديم , وصاحب الديانة المسيطرة – فهاجر شمالا بدينه الجديد من طيبة إلى مدينته التى بناها ( أخيتاتون , أى أفق آتون , فى تل العمارنة ) ورفض العودة إلى طيبة مرة أخرى , طيبة مدينة المعابد الهائلة المهيبة , والكهنة , والمؤامرات , والدسائس .. طيبة التى امتلأت بالحقد عليه , وهو الذى يتوجه إلى أفق غير آفاقهم , طيبة التى اتسخت بالمادية , والمنفعة والتعالى .. وظل عاما كاملا يتابع أيقونته وهى تتشكل حسب خطته , فى مركبته الملكية فى النيل .. فقد قرر ألا يعود إلى طيبة العجوز مرة أخرى , فهاهو يبنى مدينة جديدة لدين جديد , تسع الأغنياء والفقراء .. إنها مدينة شعبية جميلة ومبهجة .
عرف ابن الشمس الخلود مرتين , عندما آمن بالتوحيد , وعندما تزوج نفرتيتى ( جميلة الجميلات) وأجمل امرأة فى تاريخ البشر , فكتب أشعاره تحت سطوة جمالها الخالد , ومغناطيسيتها الغامرة , فمن رآها لا يمكن أن يفلت من جاذبيتها , وسوف يدور حولها مثل كوكب حول نجمته , كما عرف الخلود مرة ثالثة غير مؤكدة , عندما تجلى له الهرم الروحى .
من أناشيد إخناتون :
ومن كتاب فجر الضمير لهنرى بريستد , العالم الأثرى الذى عشق مصر عشقا كاملا , ومن ترجمة العبقرى المصرى د / سليم حسن , نقرأ مختارات من إحدى أجمل قصائد ابن النور :
بهاء أتون
أنت تبزغ بجمالك فى الأفق
أنت يا "أتون " الحي الذى كنت فى أزلية الحياة
فعندما كنت تطلع فى الأفق الشرقى
كنت تملأ البلاد بجمالك
أنت جميل وعظيم ومتلألئ ومشرق فوق كل أرض
وأشعتك تحيط بالأرضين حتى نهاية جميع مخلوقاتك
ورغم أنك قصى جدا فإن أشعتك فوق الأرض
وغم أنك فى مواجهة البشر فإن خطواتك خفية عنهم
وحينما تغيب فى أفق السماء الغربى ,
فإن الأرض تظلم كالموات
....................................
الأرض زاهية عندما تشرق فى الأفق ,
وعندما تضىء بالنهار ,
فإنك تقصى الظلمة إلى بعيد
وعندما تشرق أشعتك تصير الأرض فى عيد
..............................................
يا أيها الإله الأحد
الذى لا يوجد بجانبه إله آخر
لقد خلقت الأرض حسب رغبتك
وحينما كنت وحيدا لا شىء غيرك
خلقت الناس , وجميع الماشية والغزلان
وجميع ما على الأرض مما يمشى على رجليه
وما فى عليين مما يطير بأجنحته
وفى الأقطار العالمية : سوريا وكوش وأرَض مصر
فإنك تضع كل إنسان فى موضعه
وتمدهم بحاجاتهم .
.....................................
أنت تخلق النيل , وتأتى به كما تشاء
ليحفظ أهل مصر أحياء
لأنك خلقتهم لنفسك , وأنت سيدهم جميعا
......................................
أنت خلقت الموات العلى لتشرق فيها
ولتشاهد ما صنعت حينما كنت لا تزال وحيدا
( لا شىء غيرك )
مضيئا صورتك أنت " آتون " الحى
وبازغا وساطعا وذاهبا بعيدا وآيبا
( فى الغدو والآصال )
أنت تخلق الملايين من الصور وحدك بنفسك .
...................................
العالم يعيش بصنع يديك أنت الذى خلقتهم .
...................................................
كان لابد أن يصطدم إخناتون العائش فى الصدق ) مع كهنة آمون , فقتلوه فى النهاية , وانتقموا من عقيدته , وحطموا مدينته , وسيطروا مرة أخرى على خيرات مصر المتدفقة تحت أيديهم .. إن كهنة آمون مخيفون حقا برءوسهم الحليقة , وعيونهم الخبيثة , وبطونهم النهمة للنذور المقدسة , ومجادلاتهم التى لا تنتهى , وحقدهم الخالص ضد إخناتون الذى جعل الدين بسيطا وعظيما وشعبيا , فجعل معابد آتون بلا سقف , مفتوحة للشمس والحياة , وتفتحت روحه على إبداع الخالق , فحطم أصنامهم , وأبطل سحرهم الأسود الذى أفسد مصر على مدار ألوف السنين , وحاول محو عقيدتهم الملوثة بالمنافع الدنيوية , ولكنهم عندما سيطروا مرة أخرى كان انتقامهم رهيبا .. وكهنة آمون جنس قوى ومتكيف , وهم يتناسلون فى جميع عصور مصر , ودينهم الوحيد هو عبادة الذهب تحت غطاء الدين , ويفعلون أى شىء وكل شىء فى مقابل ذلك .. وإذا كنت تتمتع بالحدس والاستبصار , فيمكنك أن تعرفهم , ستجد الغباء العقلى يغمرهم مثل ملابسهم , ويطل من أعينهم , وستجدهم لا يعرفون فضيلة التقشف , وستجدهم كالبغال أجساما , ولكنهم يخدعون الناس بملابسهم المميزة , وكلامهم المخيف , وتلال من الهراء .. إنهم كهنة آمون فاحذرهم , وتمسك بنقاء روحك إن استطعت , وإن لم تستطع فحاول دائما أن تتأمل جمال المخلوقات ودقتها وروعتها لتصل إلى لا نهائية جمال الخالق الواحد الأحد , وتمسك بدهشة الطفولة أمام المرئيات .
منطقة سقارة ساحرة , ويمكنك أن تشم فيها رائحة التراب الفرعونى , والجمال الفرعونى, وأفقها تشرق فيه شمس فرعونية .. وما أجمل التقاء الأرض الزراعية الخضراء بالصحراء . اجلس وتخيل أجدادك وهم يبنون الحضارة , ويخططون لهرم زوسر الأعجوبة , وتخيله يلمع تحت الشمس , وسوف ترانى أنا كاتب هذه السطور , ستجدنى أحمل كاميرتى , وحقيبتى معلقة فى كتفى , وفى جيبى مفكرة فى حجم الكف وقلم , سأرحب بك أينما وجدتك , وأكون دليلك إلى مخابئ السحر , وينابيع الجمال المتدفقة فى الصحراء حول الأهرام المصرية , تلك التعاويذ الخالدة على صدر الكرة الأرضية .
ويجب عليك مثل وجوب الواجب , وتقدير ما يستحق التقدير , وتوقير أجدادك الذين أشرقت قريحتهم على أرضنا الطيبة الصابرة العتيقة , يجب أن تزور أهرام دهشور , هذا فرض عين على كل مصرى أن يزور آثار بلاده , ليتخلص من سلبية السكون إلى إيجابية الفعل والحماس للفعل , ستصاب بالدهشة , كما أصابتنى الدهشة , فارتقيت على مشاكلى , وسفاسفى , وحياتى , ورأيت الزمن الهائل ممتدا أمامى , وأنا أنظر إليه , إلى تلك الديمومة والصيرورة , ورجعت إلى شاطئ النيل ( حابى , وأتروعا ) ورأيت المصرى الأول يضع الخطوط الأولى للحياة , مؤمنا بالخلود وعاملا من أجله ..
مدخل هرم سنفرو
فى دهشور الساحرة هرم سنفرو والد خوفو , وحجم قاعدته أقل بعشرة أمتار عن هرم خوفو – هذا أمر عجيب , أليس كذلك ؟! ولكنه أقل منه ارتفاعا , ومنطقة دهشور تغمرها أشعة ملونة من السحر والغموض , وتجد الروح مرافئها هنا .. وقرية دهشور من أجمل القرى المصرية التى رأيتها بخصوصيتها الفرعونية , وطيبة أهلها , وشوارعها الرملية التى ملكت قلبى .. إنها أسطورة حية , يغمرها إحساس روائى , وللزمن فيها بدائيته الأولى , والتقاء الأرض الخضراء بالصحراء هنا أشد جمالا .
وسوف تشاهد الهرم المنحنى , وتفاجأ بأن معظم كسوته الخارجية مازالت سليمة .. وهذا الهرم تم بناءه حسب زوايا البناء الطبيعية لبناء الأهرام , وهى غالبا بزاوية ميل 45 درجة , وفى المنتصف تقريبا مالت زوايا الهرم بدرجة أشد إلى الداخل فأخذ شكلا فريدا بين أهرام ( كيميت ) مصر , ويرجح العلماء أن سبب ذلك يرجع إلى اكتشاف المهندسين أن الأساسات لن تتحمل اكتمال البناء , فحاولوا تخفيف الحمل عنها , أو لوفاة الفرعون المبكرة التى جعلتهم يختصرون الوقت , ويكملون البناء بسرعة بهذا الشكل . ولكن فى جميع الحالات عليك أن تزوره , وتجلس فى ظله , وتتأمل روعة الصحراء , وامتداد الأرض الزراعية الخضراء , وهذا التناقض سيجعل روحك تفهم أكثر , وتتخيل أكثر , وتتسع أكثر , وتعرف قيمتك فى الحياة .
وسترى فى دهشور أيضا إحدى الأعاجيب الفرعونية , سترى الهرم الأسود – ربما لم تشاهده من قبل , ولم تعرف به , واللوم يقع على الإعلام الفاشل , والحاصل على درجة الدكتوراه فى كيفية تجويد الفشل – وهو هرم هائل من الطوب اللبن , – الذى نسميه فى الريف ( الطوب النيئ ) أى الذى لم يحترق فى النار . هرم من الطوب اللبن , وليس من الأحجار ؟!!! ستراه وقد تساقطت منه أجزاء كثيرة ولم تعد هندسته مستوية لطول العهد , وعوامل التعرية , ولكن علامات التعجب تحيط به من كل جانب , ويبدو أنه كان إحدى التجارب الأولى فى البناء .. والطوبة بطول 40 سم تقريبا , وارتفاع عشرين , وفيها قطع كثيرة من كسر الشقف الفخارى , والقش , وحول الهرم بقايا بيضاء واضحة تدل أن الهرم كان مكسوا بالجص .. وهو أقرب أهرام دهشور إلى الأرض الزراعية لتسهيل جلب الردم ( التربة ) والمياه لصناعة الطوب .. وربما صنعوا الطوب , ونقلوه جاهزا إلى مكان البناء الذى يبعد مئة متر تقريبا عن الأرض الزراعية . ويثير هذا الهرم العجيب تساؤلات عديدة .
لن تجد سياحا كثيرين فى دهشور , وهذا يجعل روحك تتشرب روح المكان جيدا , كما يجعل جسدك فى خدمة روحك , فالصحراء والأرض الخضراء القريبة والأفق الممتد , وآثار الأجداد قادرة على تغيير سماء تفكيرك وخيالك . ولو استطعت فارقد على ظهرك قليلا وتأمل السماء فربما تجد طيورا فرعونية فى الأفق الفرعونى , وأنصت فربما تسمع تراتيل المعابد , وأناشيد الكهنة , وأغانى الجميلات الفرعونيات فى الحقول . وإذا أردت أن تدخل هرم سنفرو ستصعد حوالى ثلاثين مترا , وتدخل ممرا ينحنى لأسفل حوالى سبعين مترا , لتصل إلى حجرة مساحتها أربعة أمتار فى أربعة , ولها سقف مثلث ومرتفع , ويصل منها ممر إلى حجرة أخرى مثلها .
كنت وحيدا فى تلك الحجرة , والرهبة تملآ قلبى , وظللت دقائق حتى استرددت أنفاسى , وبدأت أصلى , وأدعو لقلبى أن تخف مواجده , وأن يهدأ قليلا , وأن تندمل جراحه . وناديت كل الحدائق التى مرت فى حياتى , وقلت : الرحمة واجبة , فالقلب لا يحتمل كل تلك الخطورة .. ورقدت على أرض الحجرة , واستبدت بى المشاعر , فأجهشت بالبكاء , ونمت , أو ذهبت فى غيبوبة , وأكملت صلاتى وأنا فى نومى أو صحوى , وقلت : ياقلبى : ستظل فى مهب الجمال والسحر دائما , بلا رحمة تتوقى السهام بلا جدوى , ويقطع الشيطان طريقك كل يوم , فالتمس من الخالق العظيم رحمة شاملة .. انتابتنى تلك المشاعر , وعصرتنى , ولكنى أفقت واسترددت أنفاسى وهدوئى , وأخذت أشحن روحى بعزيمة أجدادى الحكماء , وإيمانهم بالحياة الفعالة .
<P align=center>