مدارسنا الحكومية
(1) حدث صغير مهم
تلميذ فى الصف الخامس، ضعيف الجسم، ملابسه فقيرة. كان يقف أمام حجرة توزيع الغذاء (البسكويت) .. وكنت أجلس إلى مكتبى القريب , وسمعت من يقول له : البسكويت خِلص، ولكن الطفل ظل يتمشى أمام الحجرة ، فقمت لأرى مشكلته لأنى شعرت أنه جائع ، ويكاد أن يقع من الجوع. وحين اقتربت كان أحد المسئولين يصرخ فيه , ويشير له بيده إشارة عنيفة بالانصراف: امشى يَله، البسكويت خلص – وأنا أعرف أنهم يأكلون البسكويت , ولا حق لهم فى أكله، بل إنهم يوزعونه على بعضهم البعض , ويأخذونه إلى بيوتهم ، نعم والله ، وكان هذا الأمر يصيبني بألم كبير ،
وضعت يدي على رأس الطفل ، وأخذته إلى مسئولة توزيع البسكويت فى الحلقة الإعدادية فى حجرتنا , وطلبت منها أن تعطيه باكو بسكويت فأخذه وانصرف ، ونسيت الأمر.
فى اليوم التالي، وجدت التلميذ ينتظرني , وحين حضرت بالموتوسيكل، وجدته يفتح لي البوابة الحديدية , ويقول : أتفضل يا أستاذ .. فشكرته ، وظل كذلك طوال عامين .. لقد أدهشنى رد فعل هذا الطفل الصغير ، وهو يشكرنى بطريقته الخاصة .. لقد أعطانى درساً كبيراً فى الحياة.
أما حكاية أكل بسكويت الأطفال فهذه مأساة إنسانية , وتكسر القلب، وتحتاج كتاباً من ألف صفحة لعرضها,,
********************************************************
( 2 ) المتوحشة
غادة فتاة فى الصف الثالث الإعدادى , متشردة , ولا تعرف السلوك المهذب , وكل يوم فى مشاكل مع المدرسات خصوصا , حتى أنها أمسكت مُدرسة من كتفيها , وضربتها فى الحائط عدة مرات , وخربشتها , وحين صدر قرار بفصلها ثلاثة أيام حضرت إلى المدرسة , ولم يستطع أحد إخراجها من الفصل أو المدرسة ( شغل عافيه ) فالمدرسون لا يستطيعون لمسها , والمدرسات يخشين منها , ومن تصرفاتها , والأخصائيون بلا حيلة معها ,
كان ذلك عام 2001 تقريبا , وبعد خناقة كبيرة نزلت غادة ثائرة إلى الدور الأرضى , ومنه إلى الحوش , وتوقفت قائلة :" اللى ها يكلمنى ها اضربه بالجزمه " فقلت للزملاء والزميلات الذين كانوا يسعون خلفها : اتركوها فى حالها , ولا يتكلم أحد معها , فقد فقدت السيطرة على نفسها تماما , ويجب دراسة حالتها النفسية ,,
أخذت الأخصائى الاجتماعى خلفى على الموتوسيكل , وذهبنا نبحث عن ولى أمر لهذه الفتاة الهائجة , وتعجبنا كثيرا حين عرفنا أنه مدير مدرسة المسار الخاص الإعدادية , وهى مدرسة تضم المتخلفين دراسيا , والذين استنفدوا مرات الرسوب فى المدارس العامة .. جلسنا معه قليلا , وكان مكتبه مشغولا بكلام ولغط , فطلبنا منه أن نخرج لنتكلم قليلا ..
حكينا له ما يحدث من غادة , وما حدث منها أخيرا , فاكتشفنا أنه رجل طيب جدا , عندما قال :" لا مينفعشى تعمل كده , أنا ها اجيلكوا بكره زى ما انتوا عاوزين , بكره إن شاء الله " فتركناه , ورجعنا إلى المدرسة , نبحث عن أم غادة , وأرسلنا إليها رسالة مع قريبة لها , ولم يحضر الأب كما توقعنا , وبعد أيام حضرت أم غادة , وهى سيدة طيبة أيضا ....
كنا فى مكتب المدير الذى أرسل فى طلب غادة , فنزلت ثائرة هائجة تنظر شذرا إلى الجميع فى غضب جامح , وترفض كل ما يقال ضدها , وتتكلم بيديها أيضا , وعندما كادت أن تغلق طريق التواصل معها , قلت فجأة :" بُصى ياغادة , أنا هقول لك الكلام ده قدام امك , وانتى حُره , وافهمى كلامى كويس ,وخليه حلقه فى ودنك , كل سنه بييجى أولياء الأمور يسألوا عن البنات الكويسه فى المدرسة علشان يجوزوهم لأولادهم , والله العظيم يا غادة , لو محترمتيش نفسك وبطلتى شغل الهبل ده , هنطفش العِرسان عنك "
أول رد فعل لغادة على كلامى أن وجهها الذى لا يعرف الخجل , أصبح فى لون الدماء , ونكست وجهها فى الأرض , ولم تنطق بحرف طوال الجلسة , والتقط المدير الخيط قائلا :" أنا لسه مجوز اربع بنات السنه اللى فاتت " ,,,, انفرجت الجلسة , وكانت غادة تهز رأسها بالموافقة على كل كلامنا , ولم تفعل غادة مشكلة واحدة حتى آخر العام .. وكان طلبة الإعدادى يحضرون حتى آخر العام فى ذلك الزمن , والآن يحضرون يوما أو يومين لاستلام الكتب فقط !!!
( 3) مؤامرة
عندما انتقلت إلى مدرسة بجوار قريتى , رأيت الأستاذ سامى , وكان يتعارك مع الناظر وأتباعه , وكان فى حالة هياج صارخا بكل جسمه : " أنا هندفن فى المدرسة دى ومش هتنقل " .. الأستاذ سامى كان مدرسا هادئا جدا كما علمت , وله لحية خفيفة , ويعطى مع بعض المدرسين دورسا خاصة فى كل المواد , وكان يحارب الغش , ربما من أجل أنه حرام , أو لأسبابه الخاصة , والقرية التى كنا نعمل فيها كانت فقيرة مقارنة بالقرى المجاورة لها , وكان الفقر واضحا فى ملابس التلاميذ ووجوههم , ولغتهم ..
عندما انتقلت إلى هذه المدرسة ظللت شهرا حتى تكيفت مع وضع التلاميذ غير الجيد صحيا وعلميا وسلوكيا , حين فهمت ظروفهم الصعبة , ومن أسوأ ما قابلنى أننى كنت أجد نصف الفصل فى حالة نوم , وعدم انتباه , وكان يرجع الأمر إلى سوء التغذية , ولم تكن الأخصائية ترحم فقرهم , ولا كان الناظر يرحم فقرهم , مثلا كنت تجد الطفل يرتدى ملابس شبه ممزقة , والبنطلون بلا حزام , ولكنه مربوط بحبل رفيع , وفى قدميه شبشب , فى برد الشتاء , وكان يكسر قلبى أن تتجول الأخصائية بين الصفوف فى تابور الصباح وتخرج هؤلاء الأطفال , ويطردهم الناظر لأنهم بلا أحذية , دون أن يحاولوا حل مشاكلهم .. كانوا يذبحون مشاعرهم أمام زملائهم وزميلاتهم , وحين تحاول إفهامهم لا يفهمون ..
كان الشر يتطاير من عينى الناظر وهو يجلد الذين لم يدفعوا المصاريف فى تابور الصباح أمام المدرسة كلها , كل يوم فى برد الشتاء كان يضربهم ضربا مبرحا على أيديهم وأجسامهم حتى يحمرُّ وجهه من شدة الانفعال , لأنهم تأخروا فى دفع المصاريف , ويرجع السبب أن الإدارة كانت تضع حدا نهائيا لدفع المصاريف فى أول شهر سبتمبر , وكان الناظر يكمل المصاريف من جيبه حتى يظهر ناجحا أمام الإدارة , ثم يجمعها بكل قسوة وعنف .. وكنت أشرح لهم وللزملاء أن هذا لا يجوز أبدا , وأن هذه جريمة تربوية , لأنهم يذبحون مشاعر هؤلاء الأطفال لأنهم فقراء , وهم لا يستطيعون أن يفعلوا شيئا ..
كان الناظر يهوى تغشيش التلاميذ , ويحارب من أجل ذلك حربا لا هوادة فيها , ومعه فريق متخصص فى التغشيش , وقال لى مرة : " العيال كلها هاتسقط فى الإنجليزى , وأنا هقول للأستاذ سيد , الناس هاتضربك بالمطاوى عشان عيالها "
نعود للأستاذ سامى الذى كان يحارب الغش , وفى امتحان الدور الثانى , كان يقف فى وسط الحوش , يراقب اللجان , حتى يشكو من يغشش , وكانت العصابة الأخرى تترصد له , وبعد نصف ساعة من بدء الامتحان دخل الأستاذ سامى الحمّام , فأسرع الأستاذ عبدالله المحترف فى الدروس الخصوصية , وأغلق باب الحمام من الخارج بالقفل , وحين انتبه الأستاذ سامى ظل يصرخ داخل الحمام ويضرب الباب من الداخل بيديه , ويسب ويشتم , دون أن يعبأ أحد به بل ضحكوا كثيرا .. لقد دارت عجلة التغشيش , ولن يخرج الأستاذ سامى حتى ينتهى التغشيش , وسوف يعود الجميع إلى بيوتهم سعداء ضاحكين مما فعلوه مع الأستاذ سامى , إلا عدد قليل لا حيلة لهم مع ثقافة الغش السائدة ..
مضى عقدان ونيف على هذه الأحداث , ولكنها استيقظت كما هى بكل وحشيتها , وكأنها حدثت بالأمس
(4) توافق
مدرس درجة عاشرة، وغير ملتزم بأية قيمة تربوية ، وهو نهم للدروس الخصوصية، والمدرسة لا تعنى له غير تخطيط وتربيط من أجل الدروس الخصوصية , ووكيلة مثله وأكثر جهلاً وفساداً ، ولا تفعل إلا الأكل وشرب الشاى والنوم , ومن يقترب منها تنهشه بالكلام والصراخ ,,
جاء المدرس بجوارها فى زحام الحجرة ، وتكلما , ففهمت أنه ذاهب لإعطاء ابنها درساً خصوصياً ، وبعد قليل كان مشرف اليوم يبحث عنه لأن عنده حصة وهو غير موجود فى المدرسة، فانبرت كتلة الفساد تدافع عنه: دا عيان وتعبان قوى ، وراح يا خد العلاج .. دخّلوا حد مكانه , هو العيّان ميلاقيش حد يقف جنبه ..
(5) فخر
قال مُنهيا الجدال بانفعال كبير : " عليّه الطلاق ما نا واخد اتناشر حصه " ومضى , ولأن المستشرقين كانوا على حق تماما , عندما أرجعوا تخلف العالم الثالث إلى سبب واحد فقط , وهو التخلف الإدارى , فلم يأخذ المدرس القديم إلا ما أراد , ذلك الذى لم تكن تنطبق عليه صفة واحدة , أو نصف صفة, أو ربع صفة من صفات المدرس , ناهيك عن صفات المعلم
" سبع حصص خدتهم وخلتهم فى الآخر , وبرمى العيال فى الحوش وخلاص " هكذا قال مفتخرا أمام زميل له , بأنه فعل ما يريد , ويفتخر بأنه لا يعمل , وقد حارب حتى يعمل مشرفا على مدرسته .. يا للهول إنهم يعشقون المناصب , وطوال عمرى أرى أن منصب المعلم من أهم وأخطر المناصب فى مصر , وقد رأيته مرة مع زميل له يسرقان مكتباً , بعد انتهاء اليوم الدراسى , ويعيدان دهانه ...
(1) حدث صغير مهم
تلميذ فى الصف الخامس، ضعيف الجسم، ملابسه فقيرة. كان يقف أمام حجرة توزيع الغذاء (البسكويت) .. وكنت أجلس إلى مكتبى القريب , وسمعت من يقول له : البسكويت خِلص، ولكن الطفل ظل يتمشى أمام الحجرة ، فقمت لأرى مشكلته لأنى شعرت أنه جائع ، ويكاد أن يقع من الجوع. وحين اقتربت كان أحد المسئولين يصرخ فيه , ويشير له بيده إشارة عنيفة بالانصراف: امشى يَله، البسكويت خلص – وأنا أعرف أنهم يأكلون البسكويت , ولا حق لهم فى أكله، بل إنهم يوزعونه على بعضهم البعض , ويأخذونه إلى بيوتهم ، نعم والله ، وكان هذا الأمر يصيبني بألم كبير ،
وضعت يدي على رأس الطفل ، وأخذته إلى مسئولة توزيع البسكويت فى الحلقة الإعدادية فى حجرتنا , وطلبت منها أن تعطيه باكو بسكويت فأخذه وانصرف ، ونسيت الأمر.
فى اليوم التالي، وجدت التلميذ ينتظرني , وحين حضرت بالموتوسيكل، وجدته يفتح لي البوابة الحديدية , ويقول : أتفضل يا أستاذ .. فشكرته ، وظل كذلك طوال عامين .. لقد أدهشنى رد فعل هذا الطفل الصغير ، وهو يشكرنى بطريقته الخاصة .. لقد أعطانى درساً كبيراً فى الحياة.
أما حكاية أكل بسكويت الأطفال فهذه مأساة إنسانية , وتكسر القلب، وتحتاج كتاباً من ألف صفحة لعرضها,,
********************************************************
غادة فتاة فى الصف الثالث الإعدادى , متشردة , ولا تعرف السلوك المهذب , وكل يوم فى مشاكل مع المدرسات خصوصا , حتى أنها أمسكت مُدرسة من كتفيها , وضربتها فى الحائط عدة مرات , وخربشتها , وحين صدر قرار بفصلها ثلاثة أيام حضرت إلى المدرسة , ولم يستطع أحد إخراجها من الفصل أو المدرسة ( شغل عافيه ) فالمدرسون لا يستطيعون لمسها , والمدرسات يخشين منها , ومن تصرفاتها , والأخصائيون بلا حيلة معها ,
كان ذلك عام 2001 تقريبا , وبعد خناقة كبيرة نزلت غادة ثائرة إلى الدور الأرضى , ومنه إلى الحوش , وتوقفت قائلة :" اللى ها يكلمنى ها اضربه بالجزمه " فقلت للزملاء والزميلات الذين كانوا يسعون خلفها : اتركوها فى حالها , ولا يتكلم أحد معها , فقد فقدت السيطرة على نفسها تماما , ويجب دراسة حالتها النفسية ,,
أخذت الأخصائى الاجتماعى خلفى على الموتوسيكل , وذهبنا نبحث عن ولى أمر لهذه الفتاة الهائجة , وتعجبنا كثيرا حين عرفنا أنه مدير مدرسة المسار الخاص الإعدادية , وهى مدرسة تضم المتخلفين دراسيا , والذين استنفدوا مرات الرسوب فى المدارس العامة .. جلسنا معه قليلا , وكان مكتبه مشغولا بكلام ولغط , فطلبنا منه أن نخرج لنتكلم قليلا ..
حكينا له ما يحدث من غادة , وما حدث منها أخيرا , فاكتشفنا أنه رجل طيب جدا , عندما قال :" لا مينفعشى تعمل كده , أنا ها اجيلكوا بكره زى ما انتوا عاوزين , بكره إن شاء الله " فتركناه , ورجعنا إلى المدرسة , نبحث عن أم غادة , وأرسلنا إليها رسالة مع قريبة لها , ولم يحضر الأب كما توقعنا , وبعد أيام حضرت أم غادة , وهى سيدة طيبة أيضا ....
كنا فى مكتب المدير الذى أرسل فى طلب غادة , فنزلت ثائرة هائجة تنظر شذرا إلى الجميع فى غضب جامح , وترفض كل ما يقال ضدها , وتتكلم بيديها أيضا , وعندما كادت أن تغلق طريق التواصل معها , قلت فجأة :" بُصى ياغادة , أنا هقول لك الكلام ده قدام امك , وانتى حُره , وافهمى كلامى كويس ,وخليه حلقه فى ودنك , كل سنه بييجى أولياء الأمور يسألوا عن البنات الكويسه فى المدرسة علشان يجوزوهم لأولادهم , والله العظيم يا غادة , لو محترمتيش نفسك وبطلتى شغل الهبل ده , هنطفش العِرسان عنك "
أول رد فعل لغادة على كلامى أن وجهها الذى لا يعرف الخجل , أصبح فى لون الدماء , ونكست وجهها فى الأرض , ولم تنطق بحرف طوال الجلسة , والتقط المدير الخيط قائلا :" أنا لسه مجوز اربع بنات السنه اللى فاتت " ,,,, انفرجت الجلسة , وكانت غادة تهز رأسها بالموافقة على كل كلامنا , ولم تفعل غادة مشكلة واحدة حتى آخر العام .. وكان طلبة الإعدادى يحضرون حتى آخر العام فى ذلك الزمن , والآن يحضرون يوما أو يومين لاستلام الكتب فقط !!!
( 3) مؤامرة
عندما انتقلت إلى مدرسة بجوار قريتى , رأيت الأستاذ سامى , وكان يتعارك مع الناظر وأتباعه , وكان فى حالة هياج صارخا بكل جسمه : " أنا هندفن فى المدرسة دى ومش هتنقل " .. الأستاذ سامى كان مدرسا هادئا جدا كما علمت , وله لحية خفيفة , ويعطى مع بعض المدرسين دورسا خاصة فى كل المواد , وكان يحارب الغش , ربما من أجل أنه حرام , أو لأسبابه الخاصة , والقرية التى كنا نعمل فيها كانت فقيرة مقارنة بالقرى المجاورة لها , وكان الفقر واضحا فى ملابس التلاميذ ووجوههم , ولغتهم ..
عندما انتقلت إلى هذه المدرسة ظللت شهرا حتى تكيفت مع وضع التلاميذ غير الجيد صحيا وعلميا وسلوكيا , حين فهمت ظروفهم الصعبة , ومن أسوأ ما قابلنى أننى كنت أجد نصف الفصل فى حالة نوم , وعدم انتباه , وكان يرجع الأمر إلى سوء التغذية , ولم تكن الأخصائية ترحم فقرهم , ولا كان الناظر يرحم فقرهم , مثلا كنت تجد الطفل يرتدى ملابس شبه ممزقة , والبنطلون بلا حزام , ولكنه مربوط بحبل رفيع , وفى قدميه شبشب , فى برد الشتاء , وكان يكسر قلبى أن تتجول الأخصائية بين الصفوف فى تابور الصباح وتخرج هؤلاء الأطفال , ويطردهم الناظر لأنهم بلا أحذية , دون أن يحاولوا حل مشاكلهم .. كانوا يذبحون مشاعرهم أمام زملائهم وزميلاتهم , وحين تحاول إفهامهم لا يفهمون ..
كان الشر يتطاير من عينى الناظر وهو يجلد الذين لم يدفعوا المصاريف فى تابور الصباح أمام المدرسة كلها , كل يوم فى برد الشتاء كان يضربهم ضربا مبرحا على أيديهم وأجسامهم حتى يحمرُّ وجهه من شدة الانفعال , لأنهم تأخروا فى دفع المصاريف , ويرجع السبب أن الإدارة كانت تضع حدا نهائيا لدفع المصاريف فى أول شهر سبتمبر , وكان الناظر يكمل المصاريف من جيبه حتى يظهر ناجحا أمام الإدارة , ثم يجمعها بكل قسوة وعنف .. وكنت أشرح لهم وللزملاء أن هذا لا يجوز أبدا , وأن هذه جريمة تربوية , لأنهم يذبحون مشاعر هؤلاء الأطفال لأنهم فقراء , وهم لا يستطيعون أن يفعلوا شيئا ..
كان الناظر يهوى تغشيش التلاميذ , ويحارب من أجل ذلك حربا لا هوادة فيها , ومعه فريق متخصص فى التغشيش , وقال لى مرة : " العيال كلها هاتسقط فى الإنجليزى , وأنا هقول للأستاذ سيد , الناس هاتضربك بالمطاوى عشان عيالها "
نعود للأستاذ سامى الذى كان يحارب الغش , وفى امتحان الدور الثانى , كان يقف فى وسط الحوش , يراقب اللجان , حتى يشكو من يغشش , وكانت العصابة الأخرى تترصد له , وبعد نصف ساعة من بدء الامتحان دخل الأستاذ سامى الحمّام , فأسرع الأستاذ عبدالله المحترف فى الدروس الخصوصية , وأغلق باب الحمام من الخارج بالقفل , وحين انتبه الأستاذ سامى ظل يصرخ داخل الحمام ويضرب الباب من الداخل بيديه , ويسب ويشتم , دون أن يعبأ أحد به بل ضحكوا كثيرا .. لقد دارت عجلة التغشيش , ولن يخرج الأستاذ سامى حتى ينتهى التغشيش , وسوف يعود الجميع إلى بيوتهم سعداء ضاحكين مما فعلوه مع الأستاذ سامى , إلا عدد قليل لا حيلة لهم مع ثقافة الغش السائدة ..
مضى عقدان ونيف على هذه الأحداث , ولكنها استيقظت كما هى بكل وحشيتها , وكأنها حدثت بالأمس
(4) توافق
مدرس درجة عاشرة، وغير ملتزم بأية قيمة تربوية ، وهو نهم للدروس الخصوصية، والمدرسة لا تعنى له غير تخطيط وتربيط من أجل الدروس الخصوصية , ووكيلة مثله وأكثر جهلاً وفساداً ، ولا تفعل إلا الأكل وشرب الشاى والنوم , ومن يقترب منها تنهشه بالكلام والصراخ ,,
جاء المدرس بجوارها فى زحام الحجرة ، وتكلما , ففهمت أنه ذاهب لإعطاء ابنها درساً خصوصياً ، وبعد قليل كان مشرف اليوم يبحث عنه لأن عنده حصة وهو غير موجود فى المدرسة، فانبرت كتلة الفساد تدافع عنه: دا عيان وتعبان قوى ، وراح يا خد العلاج .. دخّلوا حد مكانه , هو العيّان ميلاقيش حد يقف جنبه ..
(5) فخر
قال مُنهيا الجدال بانفعال كبير : " عليّه الطلاق ما نا واخد اتناشر حصه " ومضى , ولأن المستشرقين كانوا على حق تماما , عندما أرجعوا تخلف العالم الثالث إلى سبب واحد فقط , وهو التخلف الإدارى , فلم يأخذ المدرس القديم إلا ما أراد , ذلك الذى لم تكن تنطبق عليه صفة واحدة , أو نصف صفة, أو ربع صفة من صفات المدرس , ناهيك عن صفات المعلم
" سبع حصص خدتهم وخلتهم فى الآخر , وبرمى العيال فى الحوش وخلاص " هكذا قال مفتخرا أمام زميل له , بأنه فعل ما يريد , ويفتخر بأنه لا يعمل , وقد حارب حتى يعمل مشرفا على مدرسته .. يا للهول إنهم يعشقون المناصب , وطوال عمرى أرى أن منصب المعلم من أهم وأخطر المناصب فى مصر , وقد رأيته مرة مع زميل له يسرقان مكتباً , بعد انتهاء اليوم الدراسى , ويعيدان دهانه ...