كرنفال الرصاص والدم
يوم من حياة "ديسكاوى" ثائر
" موقعة الجمل "
محمد رياض إبراهيم
شاعر وصحفى يعمل فى جريدة "المصرى اليوم"
مواليد 16 يوليو 1978 فى جمجرة القديمة – بنها – قليوبية
التحرير أجمل ميادين العالم
يوم من حياة "ديسكاوى" ثائر
" موقعة الجمل "
محمد رياض إبراهيم
شاعر وصحفى يعمل فى جريدة "المصرى اليوم"
مواليد 16 يوليو 1978 فى جمجرة القديمة – بنها – قليوبية
التحرير أجمل ميادين العالم
" موقعة الجمل فى جمعة الغضب .. من نزلة السمان أتى هؤلاء البلطجية .. أجـَّرهم ودفع لهم المجرمون لقتل الشعب المصرى المسالم الذى كان يهتف : سلمية سلمية , ولكن السفاحين بلا مبادئ , وهم عبيد للمال .. وجدير بالذكر أن عددا كبيرا من أهل نزلة السمان اعتذروا , وقالوا : إن البلطجية لا يمثلون أهل هذا القرية التى تخدم السياحة حول الأهرام , وقالوا أيضا : نحن مع الثورة .. دُهش العالم عندما رأى عقلية النظام المصرى البدائية وهى تهاجم العصر الحديث بأدوات العصور الوسطى .. انظر للجمل – سفينة الصحراء الطيب الصبور – وقد أجبروه على الهجوم , وانظر للصحفى تحته والكاميرا فى يده فى وضع صعب جدا , ولكن الثائرين يهاجمون البلطجى بلا خوف .. وفى هذا اليوم تم قتل المئات بدم بارد , فقد تم قنصهم كأنهم طيور , ولكن الحساب قادم .. "
عمل محرر الديسك فى الجرائد
"الديسكاوى" _أو محرر الديسك_ هو المحرر الصحفى المسئول عن صياغة عناوين التقارير والأخبار والحوارات والتحقيقات، وغيرها، وما يستتبع ذلك بالضرورة من مراجعة المادة الصحفية، وتوخى صحة المعلومات الواردة فيها، وإعادة صياغتها، إذا اقتضى الأمر، مع الحرص على وضوح اللغة وبساطتها ودقتها واختصارها حسب المساحة المقررة على الصفحة .
وللديسكاوى سلطة التصرف بالحذف والإضافة كيفما شاء ، ومراجعة المحرر فى معلوماته ، واستجوابه فيما كتب ، ففى النهاية، سيحاسب هو ، فى حال الخطأ ، وليس محرر الخبر ، حسابا قد يكلفه رزقه ، ويطوح به خارج الجريدة ، غير مأسوف عليه بالطبع .
باختصار، المحرر يكتب ما يظن أنه تحفة صحفية نادرة، ويعتبر دائما أن ما يقدمه لا يرقى إليه الشك، ومصاغ بأسلوب، يراه غاية فى الجمال والبراعة والوضوح، فى حين يتشمم الديسكاوى فخا منصوبا، ومصيبة باهظة النتائج، فى كل سطر يخطه المحرر، ويترقب مصيرا مظلما، إذا لم يكن منتبها، ومرر معلومة مغلوطة، أو جملة ركيكة، أو تفصيلة ملتبسة، أو خطأ معلوماتيا فادحا.
لذلك يحظى الديسكاوى، غالبا، بثقة رئيس التحرير، وكراهية المحررين، الذين يرون في أسئلته نوعا من التعالى والغطرسة التى بلا مبرر، يؤلمهم حرصه على الدقة، ويعتبرون أنه معين خصيصا للعكننة عليهم، لأنه يضرب أوهامهم الصحفية فى لحظة، ويقوض سلامهم المشوب بثقة لا أساس لها، يكرهونه فعلا ، ولا يتوانون فى التنكيل به ، كلما تمكنوا من ذلك .
الديسكاوى موزع بين مراعاته للمهنية فى كتابة الخبر، وانتمائه للأفكار التى يعتنقها، إذ لا شك أن لديه رؤاه الخاصة ، وتصوراته الخاصة، بعيدا عن السياسة التحريرية للجريدة ، لكنه ينجح فى قمعها أثناء العمل ، وقادر تماما على الفصل بين ما يعتقده، وما ينبغى أن يفعله .
محمد رياض
الفصل الأول
بضع خطوات، ويصل مدخل الجريدة، نظر فى الموبايل: النهاردة 12 فى الشهر، وكل ما معى من راتب الجريدة والسبوبة 200 جنيه، كان لازم تبعزق الفلوس يعنى على الكتب والقهاوى وأوفيليا .
آه.. أوفيليا الرائعة، منذ يومين فقط، انتهت علاقتهما، لكنه لا يشعر بالوحدة، مثل قنفذ لا يعنيه إيذاء أحد، فقط يريد أن تبتعد عنه الهلاوس والشعر والذكريات والموسيقا، كى لا تنتصب أشواكه الجديدة فيجرح بها جبهة العالم .
بعد قليل، سيصير ضالعا فى واقعة مرض الرئيس السابق ، لكنه الآن انحرف إلى كشك السجائر، اشترى واحدة LM أبيض، ثم دلف إلى المدخل، ومنه مباشرة إلى الكافتيريا، ولم يكد يطلب الشاى، حتى فاجأه زملاؤه بأن مدير التحرير يطلبه .
كتب أمس عنوانا لتقرير عن حالة الرئيس السابق الصحية ، وجاء العنوان هكذا: اليوم الثانى لـ"مبارك" فى المستشفى: يرفض تناول الطعام.. ويطرد زوجتى "علاء وجمال" من الغرفة بعد قراءة الصحف.
كان قرار النائب العام قد صدر بحبس الرئيس السابق وولديه، 15 يوما على ذمة التحقيق، فى قضية قتل المتظاهرين، واستجوبته النيابة فى المستشفى، وطارت أنباء بأنه يعانى تذبذبا فى ضغط الدم، فضلا عن انتحاره النفسى بعد إجباره على التنحي، لكن التقرير لم يتضمن واقعة الطرد من الغرفة، فقط استأذن المريض العجوز زوجتى نجليه فى الخروج ليجلس وحيدا.
طردهم إزاى؟، قال مدير التحرير، دا واحد تعبان وفى المستشفى، وطالب منهم يسيبوه شوية، يبقى طردهم؟، دى مش صحافة صفرا، بتسخن وخلاص، وبعدين التسخين ما يبقاش كده، الإدارة مستاءة جدا.
للمرة الأولى يحس بأنه انتقم شخصيا من الرئيس السابق، لا شك أن العجوز المريض قرأ العنوان فى المستشفى، فما يعرفه أنه متابع دؤوب للصحف، وبالتأكيد زادت لهفته إليها فى المنعطف الأخير من حياته المديدة، ولابد أن حالته الصحية ستتأثر لدى قراءة العنوان الملىء بالتشفى، إذ لم يكن أعتى المعارضين أو حتى الأنداد يجرؤ على الحلم بعكننة مزاج الرئيس فى يوم من الأيام، وقد يفعل العنوان أفاعيله فيهدد حياة العجوز المريض، لما يحمله من شماتة، قد تدفع به فى أتون اكتئاب حاد.
كان "مبارك" وقتها بعيدا جدا مثل مومياء فرعونية تحدق فى مجهول.
وسأل الديسكاوى نفسه: "هل من الممكن فعلا أن تتأثر حياة الرئيس السابق بمانشيت، هو الذى بدا على مدار ثلاثين عاما قضاها في السلطة باردا كقناع؟، إذا كان هذا صحيحا، فقد انتقمت منه بطريقة غير شريفة، ومعركتى بنيت على خطأ مهنى وأخلاقى فادح، ودون أن أخطط لها إطلاقا، أو حتى أفكر فى الاقتراب من العجوز الرئيس وإيلامه بطريقة ما".
"مبارك" يطلب من "خديجة" و"هايدى" عدم إحضار الصحف مرة أخرى.
فعلها الديسكاوى ، كانت هذه المرة الأخيرة التى يطالع فيها البطريرك المخلوع عناوين الصحف، بمقدوره الآن أن يرى الفرعون يطوح بالصحيفة فى وجه زوجتى "علاء" و"جمال" بعد قراءة مانشيت صفحة "5" الذى صاغه بقلمه البارع ، وحتى لو لم يكن هذا صحيحا، خيالات اخترعها الديسكاوى المولع بنفسه كنرسيس، فإن الحدث جاء على الأقل، وفق ترتيب يؤكد احتمالاته، والآن يصدقه جدا حسب المنطق الذى وضعه بنفسه، وصدق عليه للتو، ثم سار منتشيا بانتصاره الذى تتهدده الشكوك.
كان يسير مع المتظاهرين أيام الغضب، نام فى الميدان، ونشعت رئتاه بالغاز المسيل للدموع، واعترضته، فى طريقه إلى التحرير، عصابة من البلطجية، جرحوا يديه، ودق أحدهم نافوخه بشىء صلب لم يحدده، لأنه سقط بعدها على رصيف الشارع، فاقد الوعى، فى هذه اللحظة، كان الرئيس يعيش غيبوبة سياسية، لا يشعر بحركة التاريخ خارج القصر، ويناور وحيدا، بعد انهيار جهازه الأمنى تماما، ولو كان نظر مرة أخيرة بعمق إلى بروجه التى بناها فى ثلاثين عاما، لرآها تتداعى تحت الهدير الصاخب للثوار، كان الماضى كله يتصدع وينهار فى لحظة ولادة رهيبة، وبدأ المستقبل وحده، بكل غموضه ومخاوفه واحتمالاته وصراعاته، يجهز بقوة على عنق الجنرال المتقاعد وهو فى سدة الحكم.
شهقت أوفيليا الرهيبة فى ذهول، خلفها كان بعض العقلاء يصدون عنه مزيد من الهجمات المسلحة، بعدها شعر بأن الثورة لا معنى لها، لأنها تدافع عن جهلاء، وحفنة من البلطجية، خلفهم جنود الحزب الوطنى يقتحمون الميدان بالجمال والأحصنة، ويحاولون إخلائه بالقوة.. صيغة بدائية جدا لمواجهة الثوار الطالعين من الفضاء الافتراضى.
كان اليوم هو الأربعاء الدامى، عندما حاول الدخول إليها فى الميدان، فمنعته الدبابات التى تمترست فى مداخله لمنع الاشتباكات بين الجانبين، بعد موقعة الظهيرة القاسية، فيما أطلق الجنود النار فى الهواء، وحافظ الجيش على كبريائه، رافضا التورط فى دموية تنتمى للقرون الوسطى.
حتى الآن، سقط أكثر من 12 قتيلا و500 مصاب حسب آخر الأخبار، أوفيليا لا تكف عن المقاومة، كانت منهمكة فى جمع الأحجار للمتظاهرين، اتصل بها، وأفهمها أنه لا يستطيع دخول الميدان، ونجحت هى فى الخروج إليه من ناحية قصر العينى، لكن الجنود رفضوا إدخالها مجددا، فقررا الدخول من باب اللوق، ليواجه البلطجية، ويضيق بالثورة وبالحب فى موقعة واحدة.
تحولت منطقة وسط البلد تحت وقع الخطابات العاطفية للرئيس، إلى ساحة حرب أهلية مصغرة، وكانت الاتهامات بالعمالة لحزب الله وجهات أخرى، جاهزة للتسويق فى كل لحظة، وانتشرت توصيفات مثل أجندات خارجية، معونات من جهات غير معلومة، رشاوى ووجبات كنتاكى، لتستقر فى وعي الجماهير التى بدأت بالانقسام فعلا، وللمرة الأولى منذ اندلاع الثورة، شاهد صور الرئيس الباسم فى الأكمنة الشعبية، وخرج المؤيدون والشبيحة فى اتجاه التحرير، أرض المعركة الحقيقية، والمساحة التى تعادل وطنا بكامله.
من أشهر صور الثورة العظيمة المعركة على كوبرى
قصر النيل .. لقد تجلت بطولة الشعب فى وجه شرطة العادلى
وعبر الشعب إلى الميدان العظيم .. التحرير أجمل أماكن الأرض
سأله أحدهم: معاك كاميرا؟
_ وانت مالك ؟
_ تبقى جاى من التحرير، ولازم تتفتش، فين بطاقتك؟
_ آدى البطاقة.
_ إيه.. صحفى؟، صحفى فين يا سيدى؟
_ فى "المصرى اليوم".
الديسكاوى عادة لا يثور، الثورة معناها الطرد حالا من العمل، أو الإقصاء لحين إشعار آخر، الديسكاوى يجب أن يظل محافظا على السياسة التحريرية، منتبها جدا كى لا يحيد عنها، وإلا فلا داعى لوجوده من الأصل، والديسكاوى المقاوح متهم دائما بتعطيل العمل، والخروج على قواعد الوظيفة.
الديسكاوى فعلا إنسان ملتزم، يخوض صراعا يوميا مع المحررين، ليس من أجل كرامة المهنة، لا سمح الله، بل حفاظا على أكل عيشه، ولولا الحاجة، لقفز من هذا الجحيم، لاعنا اليوم الذى فكر فيه بالتصدى لهذه الشحناء الرهيبة اللانهائية.
لكنه ما إن سمع أحدهم يشتمهما، تخلص الديسكاوى من دروعه التى يحتمى بها من سهام المحررين وبطش الرؤساء، وواجه الشرذمة المسلحين بالخناجر والسيوف، وحيدا، مرحبا بالموت المؤكد، أو على الأقل، عاهة مستديمة تقعده مدى الحياة، منزوع المهنة والروح والتاريخ، منزوع حتى التجربة والإيمان بالمقاومة، بعدها ستتكلس أفكاره، وتسقط قلاع ومعابد شيدها فى نفسه تحت وطأة القصف الروحى المتواصل .. لم ينتبه الديسكاوى إلى حجم الموقف، فالمعركة لم تكن فكرية أو أدبية، على الأقل مثل التى تنتهى بلكمة يسددها، أو بصقة يوجهها إلى الأفكار التى تسكن وجه الرفيق.. أوفيليا جمالها لا يحد، رآها تهتف فيمن سحبوها بعيدا عن السيوف المشرعة فوق رأسه مباشرة: هو فين؟.
الشباب المصرى البطل الشجاع فى مواجهة خراطيم المياة
وطلقات الخرطوش والطلقات المطاطية , والطلقات الحية ,
عاشت مصر حرة مستقلة , وعاش الشباب الذى أحيانا
ورد إلينا الروح من جديد
- ما تخافيش، جاى ورانا.
كانت مجموعة أخرى تجرجره عكس اتجاه الخناجر والآلات الغاضبة، حتى انتهيا بعيدا عن المنطقة المشتعلة بالرغبة فى الانتقام منه، رغبة معززة بالغياب الأمنى، وعدم تكافؤ القوى، وهمجية نجح النظام في قمعها بجهاز أمنى مهول طوال ثلاثين عاما متصلة.
تعهدهما شابين يحملان سيفين كبيرين، وأوصلاهما حتى شارع عماد الدين.
سأله أحدهما: إنتوا جايين من التحرير؟
_ أيوه، بس ما عرفناش ندخل، عشان الجيش مانع الدخول من ناحية القصر العينى وقصر النيل وعبد المنعم رياض، وحاطين حواجز وأسلاك شائكة ودبابات وعساكر، عشان بتوع الوطنى عاوزين يدخلوا الميدان.
_ بس الريس أقال الحكومة وهيعدل الدستور، وقال إنه مش هايترشح تانى، مش هو ده اللى إنتوا عاوزينه؟.
_ كداب، هتف الديسكاوى، طول عمره بيكدب، وبعد كده هيلحس كلامه، هو حاسس إن الناس أقوى منه، وعاوز يخدرهم بالكلام عن زهده فى الرئاسة، وهو بيعبد السلطة، يبقى هايسيبها إزاى؟.
_ والبهدلة اللى إنتوا فيها؟.
_ خلاص مفيش بهدلة تانى، مفيش حاجة ليها معنى أساسا، مش دول اللى نموت عشانهم، الصيع والبلطجية، وأسطوات الوطنى اللى واقفين بيحدفوا الشباب بالحجارة والمولتوف، والقناصة فوق العمارات بيصطادوهم بالرصاص، عشان إيه؟، مبارك؟، يقتلوا شباب زيهم عشان رئيس فاشل، عايش خارج الزمن؟.
القتال لا يزال مشتعلا فى الميدان، هاتفه محمد فوزى من هناك: "إحنا مسيطرين". فوزى صحفى شاب يعمل فى "الدستور الأصلى"، كان الديسكاوى يسميه القيصر، ربما لملامحه القريبة من ملوك روما القدماء.
_ مش هاتيجى؟.
_ لأ، جاى، وأنهى المكالمة، تاركا القيصر يكمل المغامرة التاريخية الباهضة دون إزعاج.
مشيا وحيدين فى شارع عماد الدين، قبل أن يقابلا العاملين فى "فينكس"، المكان الذى شهد تعارفهما .. كانوا أمام المقهى بالشوم والسكاكين مشكلين لجنة شعبية لحمايته، أدخلوهما المقهى الذى خلا للمرة الأولى من رواده منذ أن كان اسمه "نجيب الريحانى"، قدم لهما أحدهم شايا، وسأل عما حدث، اطمأنت هى على رأسه، فقال لها إن الضربة لم تترك أثرا كبيرا، وأفهمها أن دماغه زى الحديد، فوعدته بعدم التظاهر مجددا، للسبب نفسه.
أوفيليا مناضلة قديمة، تعرفت من بعيد على عمل فصائل اليسار، الاشتراكيين الثوريين، والتجمع، والحركة الوطنية من أجل التغيير "كفاية"، تظاهرت، واغتيلت عاطفيا وإنسانيا، ولأنها كانت مرهفة أكثر مما ينبغى، لم تستطع التعايش مع حجم التشوهات المغلفة بغشاء شفيف من المشاعر المضطربة، حدث ذلك فى تجربتها الأولى، والثانية، والثالثة التى تعانيها الآن مع الديسكاوى المتوتر، لكن مع فارق بسيط عن الحالتين الأوليين، أن الأخيرة الأطول عمرا، والأكثر واقعية وخيالية فى آن، ذهبت بعيدا جدا، فيما هى واقفة لم تتحرك طوال ما يقرب من عامين، والآن تلفظ أنفاسها بألم.. اختارت التجربة موتها على إيقاع القتل، وأصوات الرصاص، ودخان الغاز المسيل للدموع والذكريات والمشاعر المغدورة.
قدم رئيس مجلس الشعب اعتذارا رسميا عما حدث للمتظاهرين فى التحرير.
وانسحب البلطجية خلف الأسلاك الشائكة عند ميدان عبد المنعم رياض، وكوبرى قصر النيل، فى انتظار توجيهات جديدة، أو تعزيزات من عربات كسر السيراميك والحجارة والأسلحة البيضاء وعبوات المولوتوف.
والرئيس ما زال غائبا.
"لتكن إيثاكا فى خلدك على الدوام، والوصول إليها هو مقصدك، لكن لا تتعجل فى سيرك، الأفضل أن يدوم السفر سنين عديدة، وأن تصل إلى الجزيرة غنيا بما كسبته من الطريق، لا تتوقع أن تعطيك إيثاكا ثراء، لقد منحتك الرحلة الجميلة، فما كنت ستخرج إلى الطريق لولاها، وليس لديها أن تعطيك أكثر من ذلك. وإذا وجدتها فقيرة فهى لم تخدعك، فما دمت على هذا القدر من الحكمة، ولك كل هذه الخبرة، فلا بد أنك قد فهمت ماذا تعنى إيثاكا، وأى إيثاكا".
الشعر يلح أحيانا مثل عجوز دمث، ومشتعل بالتجارب، يقول كفافيس: "إليك أهرع يا فن الشعر،...، فلتجلب أدويتك، أدواى بها شعورى بالجرح ووقع الألم".
لماذا تذكر الديسكاوى فجأة قصيدة "العودة إلى إيثاكا"، وانطبع نصها كاملا فى ذهنه المشوش تحت تأثير الضربة التى أكلها قبل قليل، الزمان والمكان لا يسمحان بها إطلاقا، فما خطورة الرحلة إلى إيثاكا بالقياس للقيامة الماثلة هنا، لقد مرت قرون طويلة على رحلة أوديسيوس الطويلة إلى بلدته عائدا من حرب طروادة، تبدلت أدوات القتل آلاف المرات، وشرعت قوانين ضربت روح الحضارة فى مقتل، واندلعت حروب إلكترونية حصدت الآلاف، وحروب أخرى بدائية كالتى خلفها وراءه للتو فى الميدان، الغريب أنه مع تطور أساليب القتل المادى والمعنوى، واتصالها الوثيق بالأنظمة الحاكمة فى العالم الثالث، تبدو رغبة الكائن البشرى الحاكم فى البربرية أكثر فداحة من ذى قبل، فما الذى يضطر نظاما مثل نظام "مبارك"، الإلكترونى فى معظمه، إلى الاتفاق مع خرتية من نزلة السمان، على استخدام جمالهم لاقتحام ميدان تظاهر، قلة الحيلة أمام ضغوط هائلة لم يتحملها نظام عجوز، جعلته لا يستطيع التصرف بحكمة العجائز، أما النموذج الحداثى الذى روج له الحرس الجديد، فقد سقط مع سقوط الحرس نفسه، أول من انهار، واستقر بعض أفراده رهين الإقامة الجبرية، فيما لاذ آخرون بالفرار خارج النموذج، أو خارج الوطن بكامله.
مرة أخرى، ما علاقة الشعر بكل ما يجرى؟، داخل كل شاعر، فيلسوف صغير، وروائى صغير، ومجرم كبير، يتعلق الشاعر غالبا بالأفكار المطلقة، حتى لو كان يكتب مثلا عن الأدوات الصحية، وقد تفجر شومة على رأسه من الأفكار، ما لا يستطيعه مفكر كبير فى لحظات تأملاته المخيفة، وما حدث أن الذاكرة النصية للشاعر استدعت نصا قديما، كان الموقف يريده بالضبط، ولن تكتمل الفكرة المجردة بدونه، هذه الحساسية المفرطة تجاه النصوص والمواقف، هى التى تصنع من الشاعر شخصا مختلفا عن أى كاتب آخر، فلديه سلاح إضافى لإنهاء كل شىء فى لحظة، الطاقة السحرية للكلمات، وهى ما لا يجد إليها سبيلا سوى الكهنة والشعراء، وبعض الروائيين النادرين جدا.
هكذا أنقذه راهب الإسكندرية القديم.
ومتخذا وضعية الفيلسوف التى يفضلها أحيانا، أسند رأسه المتعب إلى يديه الجريحتين، قال: إيثاكا ليست فقط مدينة أوديسيوس، التى عاد إليها، منتصرا طبعا، بعد رحلة شاقة اجتازها عبر المخاطر، إنها الوطن الذى نسافر إليه، ولو عشنا فيه سنين حياتنا كلها، دائما ستظل هناك فكرة تلح على أرواحنا القلقة، إنها إيثاكا جديدة تخصنا، يجب أن نقيمها، هنا على هذه الأرض، إيثاكا هى الحلم المحض، الطالع من أبعد كهوف الخيال، هى مطلق الحب، ومطلق العدالة، ومطلق الحرية، ومطلق الحياة، حتى لو فقدنا الإيمان بكل هذه الأشياء، هى قدر الشعراء البريئين، والأيقونات التى نصنعها على أعيننا، تماما مثل أوفيليا الصافية، الطالعة من جحيمى، نقية كملاك أصيل، الباهرة كهدية إلهية ، الباهظة الجمال، وسيدة العالم دون منازع.
الشهيد خالد سعيد , أيقونة الثورة
الحرية، أيها الديسكاوى الشاعر، فكرة قد نثور من أجلها، عادى، لكن فعل الثورة نفسه يستحق أن يكون هدفا فى ذاته: الدم المتوهج على رصيف الشارع، الرصاص الذى يدوى فى كل اتجاه، اللهث لدى محاولة إنقاذ مصاب فى الصدر أو الوجه، الرعشة التى يزرعها حضور الموت فى عينيه المفتوحتين على اتساعهما، ابتسامته التى تحمل اعتذارا نهائيا عن فترة إقامة قصيرة على الأرض، الأظافر التى تتشبث بملابسك فى محاولة للبقاء لحظة إضافية، ربما تتاح رؤية أحد ما، أو إنجاز وعد، أو القيام بإحدى المهام لا تحتمل التأجيل، المدرعات التى مرت من هنا مساء يوم مترع بالقتل، أوفيليا الذائبة فى الجميع، لا أحد يعرف مكانها، حتى التماثيل والمقاعد العامة والأشجار، النوم فى الميدان بعينين مفتوحتين على السماء، والسؤال الذى لا مفر منه، "متى سيرحل؟"، يلح بإصرار على وعيك المتيقظ لطلقة من قناص مجهول، أو قنبلة غاز فاسدة تسقط إلى جوارك، أو حريق مولوتوف يعزز من درامية المشهد.
انزل
من عليائك مرة واحدة أيها الموت
تخلّ عن لا واقعيتك الرهيبة
واقترب منى
فأنا مفتون بك
كن أكثر حميمية معي
ولا تتخلّ عني أيها الرائع كالطفولة
الغامض مثل جريمة كاملة
لا تبتعد.
ومدفوعا بكبرياء الشاعر ، الذى قضى عليه "الديسك" وطوح بأشلائه فوق رؤوس الجميع، نهض الديسكاوى الجديد، ممتلئا بالطاقة، حرا كريح نزقة، كانت أوفيليا هى الحبيبة المستحيلة، لذا اختار لها اسم عشيقة هاملت، "الطافية على الماء مثل وردة كبيرة"، الآن يحس أنها لم تعد بعيدة ، بمقدوره أن يضمها دون خوف فى عرض الشارع الواسع، والواجهات والتماثيل شاهدة، وكل الكائنات العلوية والسفلية شاهدة، حتى الفرعون الرئيس، المشغول بتدبيج الخطابات المتسولة، يستطيع، إذا أراد، أن يعاين بنفسه حبهما . أيها الجنرال المتهالك، أيتها المدرعات، أيها الجنود، أيها الخائنون والقتلة والسارقون والأدعياء.. شكرا.
أنا مدين لكم بحياتى.