المطار الزراعى بكفرسعد بنها ..
حكايات منسية
حكايات منسية
حسين أحمد إسماعيل
الطريق بين كفرسعد وبنها والمطار على اليسار
وقد تم تدمير الأرض المحيطة بالمطار فى سنوات قليلة
هذه بوابة المطار الزراعى القديم بكفر سعد ( قريتى ) وكان المطار حدثا هائلا فى طفولتنا .. وقد استمرت حركة المطار والطائرات نشيطة من بداية السبعينيات إلى نهاية الثمانينيات.. كانت الطائرات تقوم برش حقول القطن الواسعة فى قريتنا , والقرى الأخرى فى محافظة القليوبية وربما المحافظات القريبة .
ومساحة المطار كانت حوالى أربعين فدانا وتم إنشاؤه على أرض
ومساحة المطار كانت حوالى أربعين فدانا وتم إنشاؤه على أرض
لم تكن خصبة فى ذلك الوقت قبل أن يتم عمل مشروع الصرف المغطى ليمتص المياه المالحة الزائدة عن حاجة الأرض .
كنا مجموعة من الأطفال فى نهاية المرحلة الابتدائية , نلعب على جسر النيل , فرأينا طائرة تدور كأنها تستكشف المكان , ثم هبطت فى أرض المطار الذى كان تحت الإنشاء .. أدهشنا الأمر , فجرينا مسافة كيلومتر تقريبا , ولحقنا الطائرة الأولى التى رأيناها ولمسناها بأيدينا , ودفعنا الطائرة مع الطيار الذى نزل من الطائرة , وكانت إحدى عجلاتها قد انغرست فى أرض طينية , فظللنا ندفعها حتى أوقفناها فى أرض جيدة , وكانت دهشتنا كبيرة لأن الطائرة كانت خفيفة فهى طائرة لرش الحقول بالمبيدات
بعض مبانى المطار الزراعى
.
كانت شركة الطيران بولندية باسم بيزيتل , وكان الاسم مكتوبا بحروف كبيرة جدا على المخزن الأول للطائرات . ملأت حكايات المطار والطائرات طفولتنا , وبدأت مبانى المطار والسور المحيط تتم بسرعة .. ثلاثة عنابر كبيرة جدا مبنية بهيكل حديدى وطوب , لتخزين وصيانة الطائرات , وبعض المبانى الأخرى على أحدها راية مستديرة مرتفعة لتحديد اتجاه الرياح , وكان السور السلكى يميل فى اتجاه صعود الطائرات حتى لا يصطدم بها .. كنا سعداء جدا لأن المطار فى قريتنا
كانت شركة الطيران بولندية باسم بيزيتل , وكان الاسم مكتوبا بحروف كبيرة جدا على المخزن الأول للطائرات . ملأت حكايات المطار والطائرات طفولتنا , وبدأت مبانى المطار والسور المحيط تتم بسرعة .. ثلاثة عنابر كبيرة جدا مبنية بهيكل حديدى وطوب , لتخزين وصيانة الطائرات , وبعض المبانى الأخرى على أحدها راية مستديرة مرتفعة لتحديد اتجاه الرياح , وكان السور السلكى يميل فى اتجاه صعود الطائرات حتى لا يصطدم بها .. كنا سعداء جدا لأن المطار فى قريتنا
.
كانت لنا أرض شرق المطار , وكانت الطائرات تطير يوميا أمامنا , وتعلو رؤوسنا , وكانت هذه تسليتنا اليومية ونحن فى الغيط نعمل ونهتم بالبهائم .. يا لها من أيام , يا لمرابع الطفولة !!!
كانت لنا أرض شرق المطار , وكانت الطائرات تطير يوميا أمامنا , وتعلو رؤوسنا , وكانت هذه تسليتنا اليومية ونحن فى الغيط نعمل ونهتم بالبهائم .. يا لها من أيام , يا لمرابع الطفولة !!!
كنا نذهب إلى المدرسة الإعدادية فى مدينة بنها سيرا على الأقدام لمسافة كيلومترين , وفى يوم الإثنين , يوم السوق , كانت تخرج بعض الفلاحات , وتجلسن على الطريق لتبعن البيض , والزبد البلدى , والطيور , وكان الطيارون البولنديون يشترون منهن ما يريدون ..
كنا نرى الطيارين دائما يلبسون بنطلونات قصيرة فقط سعداء بالشمس على أجسامهم العارية , وكانوا يسكنون فى عمارة فى آخر كورنيش بنها فى منطقة الفلل , وكان يسهل لهم أمورهم فى الحياة رجل عجيب .. وكان يأتى إلى القرية أحيانا ليأخذ بعض العمال للعمل فى المطار .
سور المطار الزراعى
كانت لنا أيام هنا
قبل إنشاء المطار , كانت الطائرات تأتى من مكان لا نعرفه , وكان رش حقول القطن بالطائرات حدثا كبيرا , فكانت معظم القرية تخرج لتشاهد الطائرات , ويتعجبون من قدرة الطيار على التحكم فى الطائرة , ومعرفة الحقول التى قام برشها عندما يعود ..وكان الرش أحيانا ينزل مثل الرذاذ , ويحرق عيوننا ..
أما الطريقة القديمة فكانت رش حقول القطن عن طريق مواتير الرش التى تمتد منه خراطيم طويلة تصل إلى نهاية الحقل , وتحتاج عددا من الشباب والرجال لأداء المهمة .. كان عملا يدر قليلا من المال وقتها على الشباب الذى بلا عمل , وكان موسم رش القطن أحد مواسم العمل , وأحيانا ما كان يصاب أحد العمال بتسمم الرش , فيتم الاتصال بالإسعاف من التليفون الوحيد بالقرية الخاص بالعمدة , وهو مخصص للاتصال بالمركز . كما كانت هناك فرق مقاومة دودة القطن , وكانت تهلك الأطفال طوال اليوم تحت شمس الصيف الحارقة من أجل قروش قليلة ..
ومن نتائج الرش بالطائرات أن اختفت الطيور صديقة الفلاح مثل أبو قردان , والغربان , وطيور أخرى كثيرة , كانت تملأ الريف بصوتها وألفتها وشكلها الجميل ..
انقطع أبوقردان بلونه الأبيض الجميل من الحقول , ولم نعد نراه إلا نادرا , ونشأ جيل لا يعرف هذه الطيور , ولكنها عادت ببطء منذ خمسة عشر عاما أو عشرين , عادت بعد سنوات من رحيل الشركة البولندية , وهاهو أبو قردان تراه فى كل أنحاء الريف .. وترى المئات من "أبو قردان" فى أى حقل يتم ريه , ينقى الديدان من الحقل .. كنا ندرس فى المرحلة الابتدائية درسا بعنوان : أبو قردان صديق الفلاح
ومن نتائج الرش بالطائرات أن اختفت الطيور صديقة الفلاح مثل أبو قردان , والغربان , وطيور أخرى كثيرة , كانت تملأ الريف بصوتها وألفتها وشكلها الجميل ..
انقطع أبوقردان بلونه الأبيض الجميل من الحقول , ولم نعد نراه إلا نادرا , ونشأ جيل لا يعرف هذه الطيور , ولكنها عادت ببطء منذ خمسة عشر عاما أو عشرين , عادت بعد سنوات من رحيل الشركة البولندية , وهاهو أبو قردان تراه فى كل أنحاء الريف .. وترى المئات من "أبو قردان" فى أى حقل يتم ريه , ينقى الديدان من الحقل .. كنا ندرس فى المرحلة الابتدائية درسا بعنوان : أبو قردان صديق الفلاح
المطار الزراعى
.
تغير الريف , وتغيرت خارطة الزراعة , ولم تعد زراعة القطن مهمة كما فى السابق .. القطن المصرى الرائع بلوزته المتفتحة البيضاء الضاحكة النقية مثل قلوب الأنقياء الأتقياء . لم يعد أحد يهتم به , ودخلت زراعات أخرى , بل والأسوأ ضياع الأرض الزراعية بسبب البناء عليها بلا شفقة ولا رحمة ولا إنسانية , ولاعقل .. الأنانية المفرطة فى أسوأ مظاهرها تسيطر على الناس . وأنا أشعر بعداء شخصى للبناء على أرضنا الطيبة التى تكونت من ألوف السنين , لأنه شوه مرابع طفولتى , وكنا نرى أنوار مدينة بنها , ونحن فى قريتنا .. الآن تم تشويه الأفق والأرض , وأصبحت البيئة ملوثة بشكل خطير ( سأقول : قذرة ) , والحكومات الفاسدة ستظل حكومات فاسدة لا تفهم قيمة الأرض العظيمة
تغير الريف , وتغيرت خارطة الزراعة , ولم تعد زراعة القطن مهمة كما فى السابق .. القطن المصرى الرائع بلوزته المتفتحة البيضاء الضاحكة النقية مثل قلوب الأنقياء الأتقياء . لم يعد أحد يهتم به , ودخلت زراعات أخرى , بل والأسوأ ضياع الأرض الزراعية بسبب البناء عليها بلا شفقة ولا رحمة ولا إنسانية , ولاعقل .. الأنانية المفرطة فى أسوأ مظاهرها تسيطر على الناس . وأنا أشعر بعداء شخصى للبناء على أرضنا الطيبة التى تكونت من ألوف السنين , لأنه شوه مرابع طفولتى , وكنا نرى أنوار مدينة بنها , ونحن فى قريتنا .. الآن تم تشويه الأفق والأرض , وأصبحت البيئة ملوثة بشكل خطير ( سأقول : قذرة ) , والحكومات الفاسدة ستظل حكومات فاسدة لا تفهم قيمة الأرض العظيمة
..
أتذكر الآن , وأنا فى الصف الثانى الإعدادى , أن طائرة طارت من المطار منخفضة فوق رأسى , وعبرت حقلنا بقليل , ورأيناها تسقط فى حقل قطن قريب .. جرينا : أنا وطفل آخر , وكنا أول الواصلين إلى الطائرة , ورأينا ثلاثة طيارين يقفزون سور المطار , ويقفزون إلى الترعة , ويجرون خلفنا إلى الطائرة المنكوبة .. كان الطيار أصفر الوجه يتحرك بصعوبة , ولكنه كان سليما , فتحنا الباب بصعوبة بالغة , وحاولنا فك الحزام , وحين ذلك وصل زملاء الطيار لإنقاذه , ووصلت سيارة بعد قليل على الطريق الرئيسى ..
فى نهاية الثمانينيات رحلت الشركة , وعادت بعض الأراضى لأصحابها , واشترى رجل أعمال كبير نصف المطار , وجعله مخازن لشركته , وباع كثير من الفلاحين أراضيهم بمبلغ كبير وقتها , وكانوا يعتبرون أرضهم ضائعة
أتذكر الآن , وأنا فى الصف الثانى الإعدادى , أن طائرة طارت من المطار منخفضة فوق رأسى , وعبرت حقلنا بقليل , ورأيناها تسقط فى حقل قطن قريب .. جرينا : أنا وطفل آخر , وكنا أول الواصلين إلى الطائرة , ورأينا ثلاثة طيارين يقفزون سور المطار , ويقفزون إلى الترعة , ويجرون خلفنا إلى الطائرة المنكوبة .. كان الطيار أصفر الوجه يتحرك بصعوبة , ولكنه كان سليما , فتحنا الباب بصعوبة بالغة , وحاولنا فك الحزام , وحين ذلك وصل زملاء الطيار لإنقاذه , ووصلت سيارة بعد قليل على الطريق الرئيسى ..
فى نهاية الثمانينيات رحلت الشركة , وعادت بعض الأراضى لأصحابها , واشترى رجل أعمال كبير نصف المطار , وجعله مخازن لشركته , وباع كثير من الفلاحين أراضيهم بمبلغ كبير وقتها , وكانوا يعتبرون أرضهم ضائعة
..
فى المطار ثلاثة مخازن كبيرة جدا , وحارس للبوابة أراه كل صباح يجلس أمام حجرته , ويشعل الخشب فى موقد , وهو الحارس نفسه الذى كنت أراه وأنا طفل , وأصبح عجوزا الآن , وأنا أيضا كبرت , وأصبحت فى الخمسين من عمرى .. يا للأيام .. مرت مرور الحلم !!!
فى المطار ثلاثة مخازن كبيرة جدا , وحارس للبوابة أراه كل صباح يجلس أمام حجرته , ويشعل الخشب فى موقد , وهو الحارس نفسه الذى كنت أراه وأنا طفل , وأصبح عجوزا الآن , وأنا أيضا كبرت , وأصبحت فى الخمسين من عمرى .. يا للأيام .. مرت مرور الحلم !!!
من المطار الزراعى
ضاعت فى تلافيف الزمن حياة كاملة , ربما لم تضع تماما , فهى مازالت فى ذاكرتى , وأنتم أيضا تعرفون الآن بعض حكايات مطار كفر سعد الزراعى .. كفر سعد قريتى التى ولدت , ونشأت , وعشت , وأعيش فيها . فى الحقيقة أنا أعيش بخيالى فى قريتى التى عرفتها صغيرا , وهى لا تفارق خيالى , وكأنها ماكوندو , قرية ماركيز الخيالية فى روايته : مئة عام من العزلة , أما قريتى الحديثة فأنا غريب عنها تماما ..
*******************************************
حشائش خضراء ساحرة
عليها الندى مثل اللؤلؤ تحت أشعة شمس الصباح
مخازن المطار الزراعى القديم
جانب من المطار
كفر سعد من جوار أرض المطار الزراعى القديم