عين المـاء
قصة : د . محمد المنسى قنديل
ضاع الجيش فى الدهناء .. نفد الماء حتى آخر قطرة , ثم شردت الإبل بما عليها من متاع وزاد, وامتدت الصحراء مثل فخ من الصعب الخلاص منه . ولم يخيم الغم على قوم مثلما خيم على هذا الجيش الذاهب لمحاربة أهل الردة فى البحرين .. وكان سهم بن منجاب مريضا يتحامل على نفسه , وبجانبه صاحبه أبو هريرة يعانيان معا من الجوع والعطش .
كانوا يجلسون تحت برد الليل يرتعدون , ولكنه كان أهون من شمس النهار الحامية , والدهناء فخ صحراوى أجدب لا قوت فيه حتى للغربان .. وعندما بدت تباشير الفجر تحول الخوف من النهار إلى رعب , ووقف أبو العلاء الحضرمى يخطب فيهم قائلا :
- أيها الناس لا تراعوا .. ألستم مسلمين ؟ .. ألستم فى سبيل الله ؟
ونادى المؤذن لصلاة الفجر .. كان فى الجنود من بقى على طهوره من الليلة الماضية .. ومنهم من تيمم بالرمل , وجثوا جميعا بعد الصلاة .. وبدأت الشمس رحلة صعودها , فواصلوا السير , ولمعت على حافة الأفق لمعة سراب , فجروا إليها , فلم يجدوا شيئا .. كانت الرمال الجافة ممتدة مليئة بالتشفى .. ثم لمع السراب مرة أخرى .. وصاح الرائد ماااا .. وكان سهم هو أعرف أهل البلاد بها , فقال ساخرا :
- ماء وسط الدهناء !!!...
ولكنه لم يكن سرابا هذه المرة .. كانت هناك عين ماء حقيقية , تفجرت من الصخر الصلد , وسالت فى ينبوع عذب , وأحس سهم بأن الحياة تعود إلى عروقه .. وأخذ
الجنود يملئون قربهم الجلدية , وبعد برهة ارتفع غبار فى الجو .. ونظر الجنود فى حذر خوفا من أن يباغتهم هجوم .. ولكنها الإبل التى كانت قد شردت عادت بما عليها من أحمال لم يفقد منها شىء .
واصل الجيش مسيره , ولكن أبا هريرة تذكر فجأة أنه نسى قربته الجلدية الوحيدة بجانب الماء . فقال له سهم : _ أنا أهدى الناس بهذه البلاد .. دعنى أقودك إلى الماء ..
وانتهزوا فرصة راحة الجيشُ ثم عادا معا .. هبطا إلى الوادى نفسه .. ولكن لم تكن هناك عين ماء ,
ولم تكن هناك قطرة واحدة من الماء , وهتف سهم فى حيرة :
- هذا هو المكان , وأقسم على ذلك ,, الصخور نفسها , والجبال نفسها ...
وتلفتا حولهما فى حيرة .. أشار له أبو هريرة .. كانت قربة الماء موجودة .. ما تزال مملوءة بالماء تماما كما وضعها أبو هريرة على حافة الغدير .. اللهم .. ليس هناك غدير .. وصمت أبو هريرة قليلا , ثم قال : - كنت أعرف أنه لا توجد عين ماء فى هذه المنطقة .. وأن ما سقينا منه كان آية من آيات الله ... وعادا أدراجهما .
- د . محمد المنسى قنديل , قاص وروائي من أهم كتاب العالم العربى , وله أسلوب متميز فى النثر , يضعه على قمة الناثرين العرب المعاصرين .. فقد تفوق بنثره على الشعر ......
- عمل فى الكويت سنوات طويلة فى مجلة العربى .. ونشر فى مجلة الدوحة القطرية فى بداية الثمانينيات عمليه الرائعين : وقائع عربية , وشخصيات حية من الأغانى .. وأنا أدعو كل من يحب القراءة الممتعة أن يقرأهما .