القيراط الأخير
دكتور / محمد المنسى قنديل
رمز مجرد يشير إلى السماء .. من تصويرى
النيل الخالد فى كفر سعد .. من تصويرى
دكتور / محمد المنسى قنديل
رمز مجرد يشير إلى السماء .. من تصويرى
النيل الخالد فى كفر سعد .. من تصويرى
فى البدء خلق الله مصر .. كتلة من الطين .
وعندما شقها النهر وسكانها الإنسان والطير كان لهما نفس لون الطين.
لم يقسم الله طين مصر ..ولكن الجميع قسموه .. عجنوه بالدماء والعرق.. وتصارعوا حوله بالأظافر حتى أصبح النهر غريبا ..والإنسان الذى له نفس لون الطين أشد غربة .
عندما صعد المماليك وركبوا أعناق أهل مصر قسموا الطين بحد السيف , فأصبت مصر مملوكة لهم أربعة وعشرين قيراطا بما عليها من أنهار وترع وناس وطير وحيوان .
أربعة قراريط للسلطان إذا كان ضعيفا.. وخمسة إذا كان عنيفا .. وستة إذا كان شرها .. والسلطان الغورى كان أشد هؤلاء السلاطين شراهة , ولم يكتف بما يملك من أراض وعقار . بل امتلك القوافل ومكوس التجارة.. واحتكر توزيع البهار وصناعة السكر والملح وهبط إلى الوكالات يحاسب التجار والباعة ويغالطهم فى الحساب .
وعشرة قراريط للأمراء والعسكر إذا كانوا هادئين .. واثنا عشر إذا خرجوا للقتال .. وأربعة عشر إذا تمردوا على السلطان الضعيف , فيضطر لمراضاتهم . لم يكن هناك أمير من أمراء العسكر يقنع أبدا بالقراريط المقسومة له . كان دائما لديه إحساس مؤكد أن قراريط غيره أكثر خصوبة وأكبر مساحة ..من أجل ذلك كان لا يكف عن حيك المؤامرات وإحداث الفتن , ولا يتورع حتى عن زج أخيه فى السجن من أجل إضافة نصف قيراط إلى أرضه . وقراريط الأمراء كانت دائمة التشكل . فى كل مرة يمتلكها أمير يفتحها بحد السيف كأنها لم تفتح من قبله , ولم تنهب من غيره . وكل أمير يقبض على قراريطه حتى يموت خنقا أو طعنا ثم يأتى قاتله ليستولى على التركة ولا يترك له الزمن إلا برهة قليلة من الوقت يسترد فيها أنفاسه حتى تتكون مشيئة القاتل الجديد .
كان هناك قيراطان للترضية . ليس لهما صاحب محدد .. ولكنهما موجودان دائما لاسترضاء الأمير الأقوى والأكثر غضبا والأقل صبرا .. كان السلطان يعطيهما له حتى يلهيه قليلا قبل أن تحين الفرصة ويتخلص منه .. هذان القيراطان لم يدوما لأحد .. ولم يكن هناك أمير يمكن أن يبقى قويا وغاضبا ونافد الصبر إلى الأبد . وكانت شراهته دائما هى نقطة الضعف التى تقوده للنهاية .
وأربعة قراريط موقوفة لاسترضاء غفران السماء العسير المنال .. للمساجد والزوايا والتكايا والأسبلة .. للشيوخ والمجاذيب والفقهاء وطالبى العلم .. للمرضى المقيمين فى البيمارستان ولطلاب الأزهر والمجاورين وحفظة القرآن والمتصوفة والمنقطعين ولكل من يقدر على رفع غفران من أجل ذنوب المماليك الكثيرة .
وثلاثة قراريط ترسل منها الخلع والعطايا والعلوف والتقادم لنواب السلطان وجنوده المبعدين خارج الحدود حتى لا يفكروا فى الثورة عليه , ومن هذه القراريط يخزن قمح الجهاد الذى يطلق عليه " قمح العنبر الشريف " وهو لا يخرج من خزائنه إلا فى زمن الحرب أو زمن المجاعة .
لم يكن باقيا إلا قيراط واحد لكل الفلاحين .. قيراط واحد للذين يزرعون فى برودة الشتاء ويحصدون فى قيظ الظهيرة ويبنون فى كل أوان ويعانون من السخرة والشظف والجوع فى كل موسم .. قيراط واحد لكل الذين أقاموا على حافة النهر فشربوا من مائه وفاض من عرقهم فيضانه وقلبوا الأحجار ونقوا الطين وأودعوا الأرض بذرة الخلق وسر القمح والشعير وأسماء الله الحسنى.. قيراط واحد لكل الأطفال الذين ولدوا بلا حلم .. والبنات اللاتى مضين دون حب .. والفواعلية الذين ماتوا بلا ثمن .. للناس الذين جمعوا شتات أنفسهم بعد كل فيضان .. وصلوا على موتاهم بعد كل وباء .. ورحلوا للمدن فأقاموا القصور الباذخة ثم عاشوا فى الحوارى الضيقة يواصلون صنع تمائم الحياة ويترقبون – رغم كل شىء- بعث كل الأحلام الجميلة .. قيراط واحد للزهرة والقبر للشعراء الفقراء والمغنين المجهولين والصنايعية والعشاق الصغار .. قيراط واحد استطاعوا بأحلامهم الكبيرة وبانتظارهم الدائم للغد أن يجعلوه فى اتساع الكون يمتد من حافة النهر حتى مدى الأفق ,
دكتور محمد المنسى قنديل .. من أهم الروائيين والكتاب فى مصر والعالم العربى , ومن أهم من قرأ التاريخ , واستوعبه وعرضه عرضا شائقا .. إنه الحكـّاء الأبرع , وعاشق التاريخ , وله أسلوب مميز .. هو شاعر النثر العربى الحديث .. والقصة من كابه : وقائع عربية .. الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 1989. ومن كتبه الرائعه : شخصيات حية من الأغانى , وتفاصيل الشجن فى وقائع الزمن . وله روايات وقصص جميلة .